مازلت أذكر ذلك النهار شديد الحر والرطوبة في مدينة عدن منذ أشهر حيث القلق والخوف والتوتر السمة الغالبة على وجوه الناس، وبينما كنت ماراً في أحد الشوارع شد انتباهي شباب حديثي السن مهووسون بالفتوة واستعراض العضلات.. كانوا يحملون أسلحة "آليات كلاشنكوف – مسدسات" بطريقة تثير الاشمئزاز، يتجولون بها – الواحد منهم قد لا يمتلك قيمة علبة سجائر – فجأة أطلق أحدهم النار في الهواء دون سبب، مستهتراً دون رادع أو وازع وغير مكترث بترويع الآمنين والمسالمين، وكانت ملامح الدهشة تبدو على وجوه الناس مثلي.. جيل غير متزن.. سلوكيات غير سوية تتنافى مع الدين والعرف، بل حتى مع الذوق العام. جيل لا يحترم كبيراً ولا صغيراً.. واليوم تمتد ظاهرة حمل واستخدام السلاح المفرطة في الأعراس والحفلات العامة بعد أن كان ممنوعاً مستنكراً.. فهل ذلك صدفة أم موضة أم أنها عدوى؟ أم أن هناك مؤامرة لتشويه صورة عدن؟ وهل ثمة من يتعمد تسليح فئة معينة؟ وما هي العوامل التي ساعدت في انتشار الظاهرة؟ وعلى من تقع المسؤولية؟. "أخبار اليوم" استشعرت خطورة الأمر وأدركت قلق المواطن من ظاهرة حمل السلاحبعدن ورصدت جملة من الأعراض والمخاطر والحلول مع عدد من المهتمين. الأعراض والنتائج في ثالث أيام عيد الفطر المبارك من هذا العام قُتل شاب وجُرح "5" أشخاص في أحد الأعراس بعدن عندما فقد أحدهم السيطرة على سلاحه الكلاشنكوف.. كما لقي ما لا يقل عن "5" أشخاص مصرعهم في حوادث أخرى شبيهة، وتعد تلك من أحدث حلقات الانفلات الأمني الذي تشهده المدينة منذ أشهر، حيث تفشت ظاهرة إطلاق النار خلال الأعراس والحفلات العامة بعد أن كان الأمر ممنوعاً.. قوات الأمن تمتنع عن ممارسة أي دور تجاه ظاهرة حمل السلاح واستخدامه المطلق والتي يعتبرها كثيرون دخيلة على عدن والتي تزامنت مع ظهور السيارات المفخخة واغتيالات طالت عدداً من الضباط بعدن بلغ عددهم "14" ضابطاً منذ يونيو الماضي، وفي ذات السياق لوحظت سيارات أمنية بلوحات خاصة يظهر فيها رجال أمن بزي مدني مدججين بالسلاح، منهم من يطلق النار في الهواء في الأماكن العامة دونما سبب. من ناحية أخرى على اتصال بالظاهرة تعد مديريتا المعلا والمنصورة من أكثر مديريات عدن التي يمتلك أبناؤها السلاح "آليات – مسدسات" بعدما كان سكان عدن في ما مضى من الوقت يسخرون من أهل القرى والأرياف، لأنهم يتجولون بالأسلحة مع ما لسكان الريف من أعراف قبلية، إلا أن الملاحظ اليوم أن الناس باتوا يخافون من بلاطجة المدن من ذوي السلوك المنحرف والذين يسيئون ويفرطون في استخدام السلاح، ربما لأهداف أو قد يكون غُرر بهم، ما استدعى الخوف منهم أكثر من القبيلي الذي ربما عنده لكل شيء حكم: فهل سيأتي اليوم الذي يدفع فيه أبناء عدن الثمن لاسيما بعد أن أصبحت مدنهم نسخة كربونية لما جرى في أبين خصوصاً وقد بدأت تظهر سلوكيات شبيهة بما حصل في أبين مع فارق بسيط فقط في السير المتثاقل والبطيء؟! تشخيص أهل الاختصاص د. كوثر عبدالله سعيد – أستاذ علم الاجتماع بجامعة عدن - تحدثت قائلة: الظاهرة كتعريف هي ما اكتسبت صفة الاستمرارية والعمومية مثلاً: غلاء المهور – وليس أي شيء يظهر في المجتمع يعد ظاهرة اجتماعية وحمل السلاح في المدن وخصوصاً بعدن جاء نتيجة لعوامل محددة منها الجهل بمخاطر السلاح والجهل بأهداف حمله المتمثلة بحماية الأمن والاستقرار ومن الذي يفترض أن يستخدم السلاح ولماذا ومتى وأين. وأضافت د. كوثر: أما اليوم أصبح حمل السلاح واستخدامه بلا معنى وبالتالي تسبب بإقلاق السكينة العامة والاستقرار خصوصاً في عدن التي كان مثل هذا السلوك يعد جريمة يعاقب عليها القانون، بل إن استخدام الأبواق كان في فترة ممنوعاً في عدن أقصد بطريقة مزعجة، واليوم يعد انتشار السلاح بهذه الطريقة خطراً يهدد المجتمع بمختلف فئاته لاسيما في ظل الانفلات الأمني وامتناع الجهاز الرسمي عن ممارسة مهامه. العوامل والأسباب قالت د. "ك – ع - س": هناك عوامل وأسباب نفسية واجتماعية هي عبارة عن تراكمات دفعت بالشباب إلى حمل السلاح نتيجة للحالة النفسية التي يعيشها الشاب من بطالة، فراغ، معاناة، مشاكل اجتماعية، تولدت عنده حالة من الإحباط مع قلة الوعي فيلجأ إلى ممارسات .... الحلول والمعالجات وتابعت د. "ك - ع - س": لا يمكن الحد من هذه المشكلة إلا بتضافر وتكاتف كل شرائح المجتمع من منظمات محلية ومجالس أهلية ولجان شعبية وشخصيات اجتماعية وعقال حارات وخطباء مساجد وقبل ذلك الإعلام الذي له دور كبير في توعية الناس ونركز على التوعية لأن الوضع العام لا يساعد على تشكيل قوى رادعة بسبب أنه لكل مكون مغزى وهدف خاص به، لذلك لا بد من توعية مجتمعية يشترك فيها الجميع بعيداً عن الجانب السياسي والأهم البحث عن آلية للتنفيذ وكذا جداول وبرامج فعلية، لأن التنظير أمر سهل لكن الصعوبة في التنفيذ، فلا بد من تدارك المسألة على الأقل في الوقت الراهن. من إفرازات النظام ياسين عمر مكاوي – شخصية وطنية واجتماعية – أشار إلى أن ظاهرة حمل السلاحبعدن هي واحدة من نتاجات وإفرازات السلطة مثلها مثل بقية الأزمات التي يتحكم بها رموز النظام، يفتحونها ويغلقونها "بالريموت" كالكهرباء والوقود وغيرها.. وقال مكاوي: الضربة القاضية التي قام بها النظام أنه دمر القيم وعندما تضرب القيم يحدث مثل هذا التفكك في المجتمع وانتشار السلاحبعدن المسؤول عنه هي السلطة وحدها بهدف الدفع إلى الاقتتال وهناك أدلة تقطع الشك جاءت على ألسنة شباب ممن استلموا الأسلحة من السلطة عبر شخصيات بارزة ومعروفة، مستبعداً أن يكون هناك أي تواجد للقاعدة بعدن. وأضاف: لا يوجد قاعدة في عدن، بل يوجد بلاطجة النظام الذين زرعهم، مستغلاً نقاط ضعفهم من جهل وحرمان وظيفي وإحباط نفسي واستطاع التغرير بهم وتوظيفهم لأهداف خطط لها، إلا أن ذلك لن يكون، لأن عدن إن شاء الله ستحمي نفسها وهذا ما كان في كل الظروف على مر الحقب والسنين. تقصير المجلسين الأعلى والأهلي وتابع ياسين مكاوي: دور المجلسين الأهلي والأعلى قاصر تجاه كل المظاهر والسلوكيات السلبية ومنها حمل السلاح، مشيراً إلى أن الثقة بالمجلسين قد فقدت بعد أن اتضح أنهما يخدمان النظام ولم يعملا لصالح الوطن والمواطن، بل إن رموزهما هم طلاب مناصب ومتسابقون على الحصص. وأوضح مكاوي: المجلسان الأعلى والأهلي للأسف خُلقا في يوم.. وكان المطلوب منهما خدمة النظام وهناك رموز فيهما ممن يدعون النزاهة والوجاهة وعملوا على تجنيد بعض العناصر للتعاون مع السلطة. وأردف: وهما لم يعملا يوماً لصالح الوطن والمواطن، بل هما طلاب سلطة وحصص ومناصب ومن رموزهما من هو مستعد للتضحية بالقيم من أجل تحقيق أهداف خاصة من منظور حب الأنا والذاتية وهذا ما أفقدنا الثقة فيهما وأنا أتبرأ من هؤلاء جميعاً. خطباء المساجد وعن دور خطباء المساجد يقول مكاوي: هناك تقصير من خطباء المساجد فيما يتعلق بالجانب الإرشادي والتوعوي والحث على الأخلاق والسلوكيات الحميدة والتحذير من السلوكيات غير السوية التي نهى عنها الشرع متابعاً: للأسف خطباء المساجد لا يلامسون الواقع المعاش وكل ما نراه في خطبهم تذكيرنا فقط بما نحن مؤمنون به، وسرد قصص وسير السلف الصالح دون الدعوة إلى تجسيدها وترجمتها وإسقاطها على واقعنا ولو أن كل خطيب جحسد تلك القيم والمثل ونصح بما فيه صالح الوطن والأمة لما ظهرت فينا مثل تلك السلوكيات السيئة. الأحزاب السياسية ودعا مكاوي الأحزاب السياسية التي تمتلك قدرات إلى توفير الحد الأدنى لدعم ما فيه مصلحة الوطن ودعم دور اللجان الشعبية بعيداً عن التحزب المقيت والتعصب الحزبي والمناطقي وكل الإطارات الضيقة وقال: جميعنا اليوم مساهم في التقصير، بل دورنا ضعيف وعلى كل القوى الوطنية الحية تكثيف الدور التوعوي والسعي لإخراج الوطن والمواطن من كل الأزمات التي يحاول النظام إغراق المجتمع والوطن فيها وخصوصاً عدن، لأن عدن تهمنا جميعاً. نصف ثورة ونصف سلطة الأكاديمي والكاتب الصحفي/ عبدالله ناجي تحدث قائلاً: الوضع العام الذي تعيشه البلاد والذي هو نصف ثورة ونصف سلطة خلل انعكس على جميع المحافظات وعلى عدن خصوصاً، كونها مجتمعاً مدنياً تعود أهلها على قانون وغياب القانون والنظام أثر بشكل مباشر على الواقع المعاش ومن مؤشراته الانفلات الأمني، السرقة، المخالفات، قطع للطريق أي أن المزاج هو السائد اليوم، أضف إلى ذلك أن هناك من بقايا النظام من يتعمد تشويه صورة عدن لخلق حالة من الفوضى والاختلال، فإذا كانت عدن قد تم تشويهها قبل الثورة بالبناء العشوائي ما بالك الآن في ظل انهيار الأوضاع وبالتالي تحتاج المسألة إلى تزاوج بين الدور الشعبي والوطنيين الشرفاء حتى ممن كانوا محسوبين على الجهاز الرسمي، لكنهم من محبي الوطن، لأن الوضع استثنائي ويحتاج إلى تفعيل دور كافة الكيانات بمعيار اجتماعي، كون الهدف مطلبياً لكل إنسان فلا بد من توعية مجتمعية تساهم فيها كل الجهات والشخصيات قبل أن تمتد العدوى من أبين إلى عدن وبالتالي يقع الشر على الجميع. لا بد من الاستشعار الأخ/ علي الأحمدي – ناشط شبابي – يقول: كنا نتوقع أن تكون مثل هذه القضايا من أولويات المجالس الأهلية، لاسيما بعد أن اتضح أن عملية توزيع السلاح تتم بطريقة عشوائية، ما دعا إلى فتح المجال للاستعراض والبلطجة، لذلك لا بد أن يفهم الجميع حقيقة المشكلة ويستشعروا مدى خطورتها ويعملوا على نشر الوعي إما بتوزيع منشورات أو نزول الشباب إلى الأحياء أو عبر خطباء المساجد والشخصيات الاجتماعية وقبل ذلك الجامعات والوسائل الإعلامية، لأن الكل معني والكل سيلحق به الضرر. رياض محمد عمر – أكاديمي – "علم نفس" عن تنامي ظاهرة حمل السلاحبعدن يقول: هي ردة فعل غير محسوبة نتيجة أوضاع تهميشية ولدت لدى الكثيرين شعوراً بالنقص أو الدونية وبالتالي نجدهم يبحثون عما يسدون به ذلك النقص للحفاظ على مكانتهم في المجتمع، إلا أن الجهل وقلة الوعي جعلهم يخطئون الوسيلة في تحقيق المراد، لأن الواعي يدرك مخاطر السلاح ويدرك أن حمله في المدن هو النقص بعينه، ومن هنا تبلغ سلوكيات الأقل وعياً إلى حد الإضرار بالمجتمع وليس بنفسه وحسب، أيضاً هناك عوامل من المهم النظر فيها هي تتبع الأسباب التي أدت إلى ظهور سلوكيات سلبية، بعد ذلك لا بد من وجود قانون صارم يردع ويضبط ضمن قواعد ولوائح، أما غير ذلك لا حلول جزئية إذا لم يصل المجتمع إلى درجة عالية من الوعي.