(أهدي النص وحبي وشوقي إلى تلك الدموع الطاهرة لك يا أمي في يوم عيدك..عيد الأم.. كما أهديه أيضاً إلى كل أمهات الأرض وكل عام والجنة تحت أقدامكن). يا إلهي.. لقد حلّ وقت الفراق! تجَهَمت السماء تَذرِف دموعها بحرقة.. وتنزف الغيوم ألماً وسط الضباب الكثيف والحزين الذي لَفّ المكان.. كيف سأسافر وأترك وطني وأهلي وحارتي وأزهار الياسمين؟ أسئلة كثيرة تدور في ذهني تحتاج إلى أجوبة سريعة ولا وقت لها.. اقتربت مرتعشة من إخوتي الذين كانوا ملتفين حولي كباقة زهور ملونة.. طفقت أعانقهم واحداً تلو الآخر وتتصاعد سيمفونية الدموع في ذاك الصباح الرمادي ثم مشيت بخطوات وئيدة، وحائرة إلى مصير مجهول.. وأما قلبي فكان كالعصفور الجريح لا يعرف إلى أي اتجاه يطير أو يُغرد. يا له من موقف مؤلم.. إنها آخر إيماءة يا إخوتي العصافير التي تعودت ألا تغفوا أبداً إلا على وقَعِ غنائي وألحاني، لكن القدر قال كلمته وكانت مشيئته، وقد دَنت لحظة الرحيل.. توجهت إلى الحافلة التي ستُقِلّنا إلى مطار دمشق الدولي.. صعدت بحذر وتردد.. جلست أمي الحبيبة بجانبي في المقعد، وطوال الطريق وهي تطوقني بذراعيها الغاليتين، وتشُمّ أنفاسي العطرة، وتردد لي - بصوتها المتهدج- أغاني الوادع الشبيهة بتراتيل السماء.. أما أبي المسكين فكان يجلس في المقعد الأمامي، وبين الفينة والأخرى يرمقني بنظراته الصامتة كعادته كأنه يقول: لا ترحلي يا غالية.. وكانت تلك تراتيل وداعية.. منذ الوهلة الأولى انتابني شعور بأن الشارع المؤدي إلى المطار ثقيل الظل، واللحظات قاهرة، وأنفاسي تختنق ولا تدري كيف تَشق طريقها بِيُسر إلى صدري، ونبضي يتقطع من نزيف روحي.. يا إلهي هل هو حلم أم حقيقة؟ نعم.. هل هو حلم أم حقيقة؟، فجأة صرخت أمي بصوت غريب عندما توقفت السيارة أمام مدخل المطار الرئيسي.. وبدأت تمطرني بوابل من الأسئلة، هل هي حقيقة إلى أين تغادريننا يا عصفورتي؟ لا.. لا لن ترحلي.. ولماذا ترحلين؟ هل ضاق بنا العيش إلى هذه الدرجة في كوخنا الفقير، وما عاد يستوعب طموحاتك؟.. أم أنك تشعرين بالظلم؟ سامحينا يا ابنتي لو ظلمناك.. لكن كل شيء سَيُصَلّح.. لا تسافري.. لا تسافري.. ثم أصيبت بنوبة هسترية من البكاء والصراخ، وكادت تمزق معطفي وهي متشبثة به في محاولة لمنعي.. وانقسم جسدي إلى نصفين ما بين أحضان الأم الحنونة الباكية، وأولى درجات سُلم الطائرة.. وأما أبي فلم يستطع أن يتمالك نفسه هو الآخر، وبالرغم من محاولاته المتكررة الحفاظ على رباطة جأشه إلا أنه انهارَ في اللحظة الحاسمة كطفل صغير ينتحب وهو يعانقني عناق الوداع الذي أدخل الرجفة إلى نفسه، وقال: سنفتقدك يا سلوتنا.. سنفتقدك يا ابنتي.. بدأ مصعد الطائرة يعلو وأنا أعلو، وصارت أمي تَلْطِم على وجهها بكَفَيها.. هذا المشهد هَزَّ مشاعري فعدت أدراجي إليها على وجه السرعة.. عانقتها بحرارة.. استنشقت عبيرها.. ووعدتها بأنني لن أطيل عليها الغياب، وطمأنتها بأنني سأعود في أقرب فرصة ممكنة ثم صعدت ثانية إلى الطائرة.. وقفت مَلياً على قمة المصعد وأنا أحدّق في وجهي الوالدين وهما يلَوّحان لي بأيديهما حتى نبهتني المضيفة إلى الولوج سريعاً داخل الطائرة، فقطعت مشهد اللحظة الأخيرة وكانت النهاية.. جلست في مقعدي أنتحب وحيدة.. وشعرت حينئذ و لأول مرة في حياتي باليُتم الحقيقي!!.. وتمنيت لو أن الزمان يعود إلى الوراء وأعود طفلة صغيرة أجلس في حِضنَيّ الوالدين وألتف حول إخوتي.. ولكن هيهات تلك العودة... لقد مَرَّ قطار الأمنيات ولم ينتظرني. ما زالت لحظات الوداع الأخير تلك تؤلمني، وتتغلغل في شعاب روحي ووجداني، بالرغم من مرور السنين الطوال على غربتي، وهي محفوظة في شريط ذكرياتي، ولا أنسى صورة الانسلاخ التراجيدي عن الجسد الأم وانشطاره إلى نصفين، نصف في أسفل مصعد الطائرة، حيث أمي ترتدي المعطف الأسود والدموع تنهمر كالأنهار من عينيها، وتلَوّح بيديها الطاهرتين وبقي في الوطن.. ونصف آخر تختطفه الهجرة والغربة من أحضان الوطن الأم، كلٌ منهما يَشُدني نحوه. (وإلى تلك الدموع الطاهرة ومن وحي روح والدي المرحوم الشاعر موسى فرح اخترت مقتطفات من أبياته الشعرية مهداة إلى الأم في عيدها). أمي أمي يا موجَ الزَهرعاحفافِ الغَدير....... يا رفّةَ العينين يا صَحوةَ سِحر كنتِ الفراشة الحائمة حول السرير .... ولمسة يمينك تذوّب جبال الضرر عاصدى صوتك عشت نَشْوانَ وقَرير........وفي دُعاكِ تباركوا كل البشر ما في إلك بالعاطِفةِ يوجد نَظير ...........أنتِ هدّية رَبنا وصوتُ القدر مين مثلك بالتَكرِمةِ لايق جدير ......... ولولا جَناتِك كانت الدُنيا حَجر أمي يا أنفاسَ السَما ودَفّقَ العَبير.......... يا شَمسَ العاطِفةِ وطلّة قمر ومن هُداك تَفتّحَ القلب الضَرير............ وبصِلاتِك ولّتْ جيوشُ الخَطر تيهي بِعيدكِ أمنَّا بعونِ القَدير............. وليَطُلْ عمرك مُزَكّى بالثَمر × كاتبة عربية - كندا