تصاعدت في الآونة الأخيرة المعارك الإسرائيلية في القدس وعكا ومدن عربية أخرى بصورة مقصودة في محاولة لفرض مزيد من الأمر الواقع والتهويد في المدن المختلطة السكان بين العرب واليهود، وذلك بغرض دفع "فلسطينيو 48" أو "عرب إسرائيل" للهجرة طواعية تمهيدا لتنفيذ سيناريو "الدولة اليهودية" الذي سبق أن أعلنه شارون وحظي بوثيقة أمريكية تؤيده. وفي أعقاب سلسلة من المضايقات والتهويد، وفي توقيت واحد، جرت أكثر من خمس محاولات خطيرة لاقتحام المسجد الأقصى بواسطة جماعات صهيونية متطرفة والصلاة فيه، بالتزامن مع افتتاح كنيس يهودي قرب الأقصى وتحويل المصلى المرواني أسفل الأقصى لكنيس يهودي، وتنشيط مشاريع بناء الهيكل أسفله. وواكب هذا مصادمات مع الفلسطينيين في مدينة عكا - ومدن أخرى في الجليل والمثلث والنقب حيث التجمعات العربية - وفي البلدة القديمة بمدينة الخليل، وكلها مصادمات ذات خلفيات دينية غرضها إزالة الوجود العربي هناك وتطبيق مخطط (الدولة اليهودية). فقد كشف الاعتداء الصهيوني الأخير يوم 19 أكتوبر 2008 من قبل الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة بحراسة الشرطة عن تعاظم محاولات المتطرفين الصهاينة المدعومين من الشرطة فرض أمر واقع جديد - كما فعلوا في الخليل بتقسيم الحرم الإبراهيمي - يتمثل في تقسيم الأقصى بين المسلمين واليهود بعدما اكتملت خطط بناء مؤسسات يهودية أسفل الأقصى. وكشف رئيس قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي عن أن 30 جماعة يهودية تقتحم المسجد الأقصى بشكل يومي تقريبا، وأنهم بدءوا يطالبون بالصلاة في حرم الأقصى بغرض تغيير الوضع الحالي وفرض أمر واقع يسمح لهم بالصلاة وتقسيم الأقصى. وكان الجديد هذا العام هو إغلاق مؤسسة الأقصى التي تضم ملايين الوثائق الهامة عن تاريخ القدس والحرم القدسي وسرقتها كي يمنعوا المسلمين من الاحتفاظ حتى بوثائق القدس. أيضا كشفت مناوشات المتطرفين في الخليل عن أن 26 اعتداء حدث ضد فلسطينيي البلدة القديمة من قبل المستوطنين الصهاينة منذ بداية هذا العام، كما أن معارك عكا بين العرب واليهود لم تكن سوى قمة جبل الجليد في سلسلة مضايقات تستهدف إخراج الفلسطينيين بالقوة لتنفيذ مشروع الدولة الدينية، وخصوصا أن آلاف المتطرفين الصهاينة بدءوا يشكلون جماعات للقيام بأعمال عدوانية ضد العرب لطردهم، ما يعني أن حادثة عكا كانت مفتعلة. ويبدو أن ثمة قناعة لدى المتطرفين الصهاينة -الذين تساندهم الأحزاب اليهودية المتطرفة في السلطة- بأن الفرصة باتت مهيأة إقليميا ودوليا لتنفيذ الشق الأهم من سيناريو بناء الدولة اليهودية الخالصة التي لا يوجد بها أي عرب.. ففلسطينيو الضفة وغزة في ملهاة الصراع الفلسطيني الداخلي، وأمريكا لن تعارض هذا التوجه الإسرائيلي خصوصا أن هناك وثيقة تعهد أمريكي بذلك سلمها الرئيس بوش لشارون، فضلا عن أن تحقيق هذا السيناريو يزيل عبء مطالبة الدولة العبرية بمبادلة أراضي من 1948 بدل أراضي 1967. ولأن المعارك التي خاضها الصهاينة المتدينون في كل من القدس والخليل وعكا كشفت بالمقابل عن وعي كبير من جانب فلسطينيي 48 بطبيعة المخطط الذي يجري تنفيذه واستعدادهم بخطط للمواجهة ورفض التهجير، ما نتج عنه مصادمات فعلية، فهذه المعارك في الخليل والقدس وعكا تطرح تساؤلات حول احتمالات قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة.. ولكن هذه المرة في قلب الدولة العبرية والنتائج التي يمكن أن تترتب على هذا. القدس الهدف الأكبر ومن الواضح أن القدس والمسجد الأقصى هما الهدف الأكبر الذي يجري التركيز عليه من قبل الصهاينة خصوصا بعدما اكتملت تقريبا خطط الحفر أسفل الأقصى وخطط بناء العديد من مؤسسات ومدارس خدمة الهيكل والكنس الصغيرة، ولم يبق سوى بناء الهيكل نفسه محل الأقصى!. ولفترة طويلة ظل الصهاينة يحاولون إيجاد منفذ للدخول إلى المسجد الأقصى باعتباره مكان هيكلهم القديم، ولفترات طويلة ظلت محاولات الحفر أسفل باحات المسجد الأقصى، حتى تمكنوا من بناء غرف كاملة للصلاة أسفل الأقصى وفتح طريق لدخول المصلين اليهود للأقصى عبر هدم قسم من باب بالمغاربة مؤخرا وبناء جسر جديد يعبر عليه المصلون اليهود لداخل الأقصى مباشرة. وخطورة ما يحدث أيضا أنه يجري بالتوازي مع استمرار الحكومة الإسرائيلية مواصلة حفرياتها الخطيرة تحت حرم المسجد الأقصى والتي وصلت إلى وسط المسجد الأقصى حيث (كأس الوضوء) قبالة المسجد القبلي. وما يزيد القلق هو أن سلطات الاحتلال شرعت في تنفيذ مخططها بهدم جزء من باب المغاربة مستغلة أجواء الاحتقان في الساحة الفلسطينية واتجاه الأنظار إلى خلافات فتح وحماس، فضلا عن تكهنات بأن تسريع وتيرة الحفريات والعدوان على الأقصى من أعلى -بعد فترات حفر طويلة أسفله- مرتبط بالحديث عن قرب استئناف مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين ومن ثم فرض أمر واقع. وبهذا الأسلوب تم بناء كنيس يهودي أسفل الأقصى في غفلة من العرب، وتم افتتاح متحف يهودي ومدارس لخدمة الهيكل ومصلى لليهوديات وبناء شبكة أنفاق واسعة.. وكل هذا أسفل الأقصى الذي تتصدع أساساته عمدا. وقد بلغت موجة التدنيس للمقدسات الإسلامية في القدس، والتي تصاعدت بشكل ملحوظ خلال الأيام الأخيرة، ذروة غير مسبوقة بإعلان جماعات يهودية متطرفة هذا الشهر (أكتوبر 2008) أنها نجحت في اقتحام المسجد الأقصى المبارك بالمئات وقرأت نصوصًا دينية يهودية بشكل جماعي وبأصوات عالية، برعاية سلطات الاحتلال وتسهيلات قواتها. وقد أبقت شرطة الاحتلال الأمر سرًّا حتى لا يطلع المسلمون على الأمر، حيث تم إدخال عشرين مجموعة خلال يوم واحد قوامها 650 شخصا، أربعمائة قبل الظهر ومائتان وخمسون بعد الظهر، بمشاركة شخصيات تلمودية، واقتحم هؤلاء الأقصى بعد تحضيرات وطقوس دينية وتلمودية يهودية وتصوير ما حدث لتشجيع غيرهم على تكراره!. طرد عرب الجليل! والتطور الثاني الأخطر كان استغلال حادثة عادية - تمثلت في مرور رجل عربي بسيارته في حي يهودي بمدينة عكا يوم السبت الذي يحرم فيه اليهود ركوب السيارات - لشن حملة كراهية واعتداء على أهالي عكا والعديد من مدن الجليل حيث يتركز أغلبية الوجود العربي هناك. ويشكل الفلسطينيون نصف سكان الجليل تقريبا (الثلث وفق تقديرات إسرائيلية) في العديد من البلدات العربية مثل: شفا عمرو، عكا، صفد، بيسان، طبريا، حيفا وغيرها. ولم تكن المصادمات التي جرت بين سكان فلسطينيين ويهود في عكا سوى قمة جبل الجليد من سلسلة من عمليات التحريض التي يشنها متطرفون يهود ضد العرب من سكان منطقة الجليل شمال إسرائيل، وهو ما أكدته صحيفة "معاريف" العبرية التي ذكرت أن التوتر في العلاقات اليهودية العربية في الجليل يتصاعد, وأن رؤساء المجالس المحلية اليهودية يشنون هجوما حادا على أهالي الجليل الفلسطينيين. والملاحظ هو تصاعد دور حركات صهيونية مدعومة من قبل أطراف حكومية للمطالبة بطرد العرب ودعوة الحكومة الإسرائيلية إلى تهويد منطقة الجليل بأقصى سرعة ممكنة, بل أن حركة "الصهيونية المتحدة" عقدت مؤخرا مؤتمرا حذرت فيه القادة الإسرائيليين من أنه "خلال 15 عاما قد تفقد إسرائيل الأغلبية اليهودية في منطقة الجليل". وكان داني أيالون السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، حذر مما اعتبره خطرا دائما يشكله سكان الجليل من العرب، حيث سيكون وفق رأيه بإمكانهم خلال سنوات فقط إعلان الجليل منطقة حكم ذاتي أو ربما دولة مستقلة على غرار كوسوفو وأبخازيا وأوسيتيا بسبب زيادتهم السكانية مقابل تقلص وهجرة اليهود منها!. وقد انعكست هذه التحذيرات على إنشاء مجموعة من المتطرفين الصهاينة هذا العام 2008، جمعية جديدة تطلق على نفسها اسم "الصهيونية المتجددة"، بمبادرة مائة يهودي يميني وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة جندت خمسة آلاف متطرف جديد في صفوفها وتسعى حالياً إلى تجنيد مائة ألف، وهذه الحركة -بحسب عوفاديا يوسف- ستعلن عن نفسها كحركة سياسية تخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومن شعاراتها: "العرب في الجليل خطر على مستقبل اليهود"، و"لا تنازل عن إسرائيل الكبرى". وضمن ما تعرضه الحركة لجذب المؤيدين، تأكيد ضرورة طرد العرب، وفي رأي عوفاديا أن أمام اليهود "عشر سنوات هي الفترة المتبقية لتطهير منطقة الجليل من العرب وإلا فإن القطار سيفوت كل من يريد الحفاظ على أرض إسرائيل الكبرى". انتفاضة (داخلية) ثالثة؟ الانتفاضة هذه المرة لن تأتي من الضفة أو غزة كما حدث في الانتفاضتين السابقتين، وإنما من قلب الدولة العبرية وبالتحديد من المناطق العربية داخل الدولة الإسرائيلية المقامة عام 1948، فخطورة هذا التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية من فلسطيني الخط الأخضر -والذي لم يتوقف يوما- أنه بلغ مرحلة الطرد النهائي والترحيل بعدما اتبعت في السنوات الماضية حيلا وخططا مختلفة لطرد بعضهم على مراحل عبر تشديد قوانين جمع شمل الأسر، وهدم المنازل بحجة التطوير ومحو تاريخهم وإدماجهم ثقافيا، ما انعكس على انتفاضات صغيرة في كل مدينة ذات أقلية عربية كبيرة يتوقع أن تتصاعد لانتفاضة أكبر وأشمل بينهم. ويبدو أن ضغط الإسرائيليين على جرح الطرد الكامل للأسر الفلسطينية من المدن العربية بالقوة والترهيب هذه المرة، إضافة إلى المس بالمقدسات خصوصا الأقصى وظهور بوادر مخطط لتقسيم الأقصى بين المسلمين واليهود على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي بعدما انتهت خطط الحفر أسفله وإحاطته بسلسلة من المعابد اليهودية.. كل هذا يمهد بقوة لهذه الانتفاضة الداخلية. أما دلالات هذه الانتفاضة داخل الأرض المحتلة عام 1948 (لو حدثت)، فهي تمس أمن الدولة العبرية الأم وما يقال عن تعايش بين العرب واليهود داخلها، وتزلزل أسسها وتهدد قواعدها. وهي لو حدثت فستكون بمثابة حرب أهلية داخلية بين العرب واليهود، ونقطة انشقاق ومعركة داخلية تضرب هذه الدولة في عمقها وتهدد أمنها بصورة خطيرة، بعدما حرص الصهاينة المؤسسين الأوائل على تحصين هذه الدولة من داخلها من كل ما يهدد أمنها ونقل هذه المهددات للمحيط الخارجي في أراضي فلسطينالمحتلة عام 67 أو في أراضي البلدان العربية المجاورة (دول المواجهة). ويزيد من خطورة هذه الحرب الداخلية أو الانتفاضة المرتقبة أنها ستدفع من يتعاون من هؤلاء العرب مع الإسرائيليين لوقف تعاونه والانقلاب على اليهود خصوصا في ظل عمليات "تهويد الدولة" الجارية بقوة، مثل خروج الجنود العرب من الجيش الإسرائيلي (الدروز تحديدا بعدما بدأ جنود النقب في الخروج بفعل دعوات أئمة المساجد لهم)، وتعطل مشاريع عديدة يشارك فيها العرب بقوة وقد انخفضت أعداد المجندين (إجباريا) من البدو العرب في النقب داخل الجيش الإسرائيلي بشكل كبير من 390 مجندا عام 2004 إلى 220 مجندا في العام 2007 بسبب دعوة أئمة مساجد لهم لرفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي وعدم صلاتهم على من يقتل منهم باعتبار أن مشاركتهم في الجيش الإسرائيلي "حرام شرعا". وما قد يزيد هذه الانتفاضة أو الحرب الداخلية اشتعالا هو اصطباغها بصبغة دينية وحشد "الحركة الإسلامية في فلسطينالمحتلة 48" -بجناحيها- للجمهور العربي وفق قناعات دينية مثل اعتبار المشاركة في الجيش الإسرائيلي أو الكنيست حرام شرعا، وحشد كل فريق لأنصاره على أسس دينية!!