مع الدخول الفعلي لحزب الله في الحرب ضد الثوار وأغلبية الشعب السوري في معركة القصير، بدأت ملامح الصراع الطائفي في سوريا تتحول من مجرد أحاديث ومخاوف نظرية إلى واقع فعلي، وباتت المنطقة تقترب أكثر فأكثر من استقطاب حاد على أسس طائفية، بعدما ظل يرتكز على أسس سياسية لسنوات طويلة. فمن هي الأطراف المسؤولة عن تفاقم هذا الاستقطاب؟ وما هي المقاربات والسيناريوهات المحتملة للعلاقة بين أبناء هذه المنطقة على اختلاف دياناتهم وأعراقهم وطوائفهم؟ تحديد المسؤوليات لا يكاد يخلو حديث سياسي أو اجتماعي أو نقاش إعلامي أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي من التخويف من أجواء الاحتقان الطائفي، وهو تخويف له ما يبرره خصوصا بعد معركة القصير. ولكن المدهش، أن كثيرا من الحريصين على تجنيب الأمة مخاوف الصراع الطائفي يبتعدون -بقصد أو بغير قصد- عن تحديد الجهة أو الجهات المسؤولة عن الشحن المتصاعد حاليا، وهو أمر في غاية الخطورة من ناحيتين: الأولى أنه يحرمنا من تحديد سبب الأزمة وبالتالي يحد من قدرتنا على التعامل معها، والثانية أنه يتجاوز ضرورة أخلاقية بتحديد المسؤول عن جريمة الشحن الطائفي، ويساوي دون وعي أحيانا بين الجلاد والضحية. لقد حاول النظام السوري وأجهزته وأدواته الإعلامية تصدير الصراع الطائفي منذ بداية الثورة السورية، واتهم الثوار الذين كانوا يمثلون في ذلك الوقت طليعة الملايين الذين خرجوا في مظاهرات سلمية استمرت لستة أشهر بأنهم يريدون القضاء على الأقليات، في محاولة منه لاستمالة المكونات الطائفية والعرقية والدينية غير السنية وتخويفها من الثورة، الأمر الذي نجح فيه النظام إلى حد كبير، وأدى إلى تلبيس الثورة زورا وبهتانا بصبغة طائفية ليس لها علاقة بأهداف الشعب الذي خرج مطالبا بحريته وكرامته وظل يهتف في كل هذه المظاهرات بوحدة الشعب السوري وتجانسه. ولكن نجاح النظام بتخويف الأقليات من الثورة لا يعني أن الثورة كانت فعلا طائفية، ولا يعني كذلك أن النظام بادعائه تمثيل مصالح الأقليات قد استطاع أن يدفع الثورة إلى حشر نفسها في زوايا طائفية، بل إن شعارات الثورة ظلت إلى وقت قريب جدا مرتبطة بالمطالب المشروعة التي رفعت منذ اليوم الأول، والتي تصب في مصلحة المواطن السوري بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الطائفي. وإضافة إلى مسؤولية النظام عن محاولة إضفاء الصبغة الطائفية على الثورة، فإن حلفاءه الرئيسيين مسؤولون بشكل مباشر وغير مباشر عن إذكاء نار النزاع الطائفي، وتحويل صورة الثورة الشعبية العظيمة إلى صراع طائفي بين السنة والشيعة. ويأتي في مقدمة هؤلاء إيران التي تعتبر العنصر الأساسي في إطالة عمر النظام، والتي ساهمت في تشويه الصورة الثورية للشعب السوري عبر ادعاءاتها بأن الثورة مؤامرة دولية على محور المقاومة الذي تشكل سوريا ركنا أساسيا فيه، متجاهلة المطالب المشروعة للشعب السوري، ومتناسية أنها وقفت بوضوح مع ثورات الشعوب العربية الأخرى في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وادعت أنها بداية لصحوة إسلامية جديدة مستلهمة من الثورة الإيرانية. لقد كان من المستحيل على الجماهير العربية التي يشكل السنة غالبيتها العظمى أن تتفهم الدعم الإيراني غير المحدود للحراك الشعبي بالبحرين، في مقابل الدعم غير المحدود للنظام السوري، دون الارتكاز إلى البعد الطائفي في تحليل هذا التناقض الإيراني الواضح. صحيح أن إيران كانت ستدعم نظام الأسد بغض النظر عن انتماء رئيسه الديني، وصحيح أن الأسد أصلا علماني لا يقيم وزنا كبيرا للانتماء الديني، وصحيح أيضا أن العلاقة برأينا بين النظامين قائمة أساسا على اعتبارات سياسية ومصلحية، إلا أن كل هذه الاستدراكات لم تكن كافية لتفسير الموقف الإيراني دون اللجوء إلى العامل الطائفي، وخصوصا عند مقارنة الموقف الإيراني من سوريا مع موقفها من البحرين واليمن اللتين لا يمكن تفسير التأييد الإيراني للثورات والحراكات فيها إلا من بوابة التطييف، ومحاولة إيران إظهار نفسها كمحامي الدفاع عن الشيعة في كل أنحاء العالم. وإذا تجاوزنا إيران وعلاقتها التقليدية مع سوريا، فإن الموقف الرسمي العراقي من الثورة السورية عصي على الفهم دون اللجوء إلى التفسير الطائفي، إذ كيف يمكن التصديق بأن المالكي الذي جاء كنتيجة للاحتلال الأميركي يساند الأسد لأنه يعتقد بوجود مؤامرة أميركية وعالمية ضده؟! وكيف يمكن فهم الموقف المؤيد للنظام السوري بعد أشهر فقط من مطالبات عراقية بتفعيل البند السابع ضد سوريا بسبب "دعمها للإرهابيين" الذين ينفذون عمليات تفجير في العراق؟ إن التفسير الوحيد للموقف العراقي -إضافة إلى خوف بغداد من تحول سوريا إلى ساحة للجماعات المسلحة المناهضة لها- هو أن المالكي الخاضع تماما للإرادة الإيرانية اضطر لاتخاذ هذا الموقف، وحاول من خلال تصريحاته المتتالية التصوير بأن الثورة في سوريا ستؤدي إلى حرب طائفية، بينما كان قبل سنوات يعتبر التدخل الأميركي في العراق أمرا واجبا للانتهاء من نظام صدام! وعلى أهمية دور النظام السوري وإيران في تأجيج الصراع الطائفي في المنطقة، فإن القشة "التي قصمت ظهر البعير" تمثلت في الدخول الفعلي والمباشر والسافر لحزب الله في الحرب ضد الشعب السوري في مدينة القصير، واستخدام أفراده الأعلام ذات الشعارات الطائفية أثناء المعارك، ورفعهم الرايات الطائفية على مساجد القصير بعد انتصارهم في المعركة، والاحتفالات المشينة في الضاحية الجنوبية بانتصار حزب الله في المعركة، وهي الاحتفالات التي كان يمكن لغالبية العرب والمسلمين أن يحتفلوا بها لو كان الانتصار في حرب ضد إسرائيل كما حصل عام 2006. ويرى البعض أن حزب الله ليس له من خيار سوى الوقوف إلى جانب حليفته الرئيسية "سوريا" والاستجابة لمصدر قوته الوحيد "إيران"، وهذا صحيح، ولكن غير الصحيح أن موقف الحزب كان يمكن أن يفسر على أسس سياسية وإستراتيجية لو اكتفى بالدعم السياسي والإعلامي، ولكن التورط بالدعم العسكري والمشاركة الفعلية في الحرب لا يمكن أن يفسر بشكل كاف دون استحضار العامل الطائفي، وهو الأمر الذي تعزز بالمبررات التي ساقها حزب الله لدخول القصير، والتي كان على رأسها حماية المراقد الشيعية من المجموعات المسلحة، وهو تبرير يشبه القول بأن من حق حركة إسلامية "سنية" عراقية مثلا الدخول في حرب مفتوحة ضد إيران لأنها تمنع السنة الإيرانيين من إقامة مسجد لهم في طهران، وهي مبررات في الحالتين ليس لها أي تفسير سياسي، بل هي غارقة في التفسيرات الدينية الطائفية. ولا يعني هذا تحميل المسؤولية كاملة للنظام السوري وحلفائه، إذ إن بعض الدول العربية "السنية" -وعلى رأسها السعودية- ساهمت في إذكاء هذا الصراع، ولعبت من خلال إعلام "البترودولار" دورا سلبيا في هذا المجال، ولكن هذا الإعلام وهذه الدول كانت موجودة قبل الثورة السورية بسنوات دون أن يستمع إليها أحد، ولم تتمكن من التأثير على الموقف العربي الشعبي مثلا من حزب الله أو إيران خلال حرب يوليو/تموز وغيرها من المفاصل التي وقفت فيها هذه الأطراف ضد المشروع الأميركي، إلا أن الدور المشين لإيران وحزب الله في دعم النظام السوري وجرائمه ضد شعبه سمح للإعلام ذي الأجندة الطائفية بالنفاذ إلى عقول وقلوب الجماهير العربية. حقيقة الصراع لا يمكن بأي حال من الأحوال التخفيف من دور الطائفية في إذكاء الصراع بالمنطقة، ولكن الحقيقة أن هذا الصراع الذي يدور اليوم على أرض سوريا هو في الأصل صراع سياسي "بلبوس طائفي"، وما الطائفية التي تبدو كأنها أساس الصراع إلا شعار ترفعه الأطراف السياسية المختلفة لتحقيق مصالحها السياسية. لقد بدأت الثورة السورية بمطالب سياسية وشعبية ليس لها أي علاقة بالطائفية، ورد النظام الدموي على هذه الثورة بأسلوب عسكري إجرامي، وهو بذلك أيضا كان يريد الحفاظ على مصالحه السياسية، بينما وقفت إيران الساعية لترسيخ نفسها كدولة إقليمية في المنطقة مع النظام لأنه حليفها الرئيسي والإستراتيجي، وتبعها في ذلك حزب الله المرتبط عضويا ومصيريا بكل من إيران وسوريا. ولكن هذه الأطراف المتحالفة مع النظام استطاعت استخدام الطائفية لحشد التأييد الشعبي ضمن الطائفة الشيعية لمواقفها، ولذلك يستطيع المرء أن يلاحظ تأييدا واسعا للنظام السوري ضمن القواعد الشعبية "الشيعية العربية"، وبصورة بالغة التناقض أحيانا، إذ تجد الشخص نفسه يؤيد المالكي الذي وصل إلى موقعه "بفضل" الاحتلال الأميركي، ولكنه في نفس الوقت يؤيد الأسد لأنه "مستهدف" من قبل الإمبريالية الأميركية. ورغم وجود انقسام عمودي شبه كامل بين السنة والشيعة تجاه الموقف من سوريا، فإن الأمر لا يخلو من وجود اختلافات داخل النخبة السنية خصوصا، إذ يساند الكثير من المنتمين للتيارات القومية واليسارية نظام الأسد باعتباره يمثل مشروع المقاومة والممانعة في المنطقة، وهو ما يؤكد الطبيعة السياسية للصراع، وأن الطائفية مجرد شعار يرفع بشكل خاص من قبل حلفاء النظام لإقناع قواعدهم الشعبية بموقفهم السياسي -غير الأخلاقي- تجاه دعم نظام يجرم ليلا ونهارا بحق شعبه. مقاربات المستقبل يحتشد التاريخ البشري بتجارب لا تعد ولا تحصى من الصراعات الإثنية والطائفية، وتشير هذه التجارب إلى أن الصراعات الطائفية والإثنية والمذهبية هي الأسوأ في التاريخ البشري، وأنها تخلف شروخا اجتماعية لا يمكن أن تنتهي بسرعة. ولكن هذه التجارب تشير أيضا إلى أن أيا من هذه الصراعات لم ينته بانتصار كامل لطرف على طرف، بل إن الأطراف جميعا عادة تخرج خاسرة على صعيد الأرواح والمقدرات، إذ لا يمكن لأي طرف أن يفني أو ينهي الطرف الآخر. لقد قدر للمنطقة العربية والإسلامية أن تضم تنوعا طائفيا ودينيا وعرقيا كبيرا، وكان يمكن لهذا التنوع أن يساهم في إثراء المنطقة وخدمتها، ولكنه للأسف تحول إلى مغذ لصراع داخلي سيخسر فيه الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم، وهو الأمر الذي لا يمكن تطويقه إلا بدعوة النخب السياسية والفكرية إلى تبني مقاربات مستقبلية تحمي المنطقة من صراعات داخلية لا تنتهي. وأهم هذه المقاربات ما يلي: • التأكيد على الطبيعة السياسية والثورية للصراع في سوريا، فما يجري هو ثورة شعبية عظيمة حملت ولا تزال تحمل شعارات الحرية والكرامة للشعب السوري بأكمله، وحافظت على سلميتها لأشهر طويلة قبل أن تنجر إلى التسلح بفعل دموية النظام وإجرامه. • التأكيد على الأسس السياسية والمصلحية للتحالفات بين النظام السوري وإيران وحزب الله، وأن الطائفية مجرد شعار يستخدم من هذه الأطراف بشكل غير مباشر بهدف الحشد وكسب التأييد في صفوف قواعدها الشعبية. • تحييد الخلافات الداخلية بين مختلف الطوائف والإثنيات لمواجهة المخاطر الخارجية، دون أن يعني ذلك محاولة ادعاء توافق زائف ينفي وجود هذه الخلافات، بل المقصود في ذلك أن يعترف كل طرف بحق الطرف الآخر في امتلاك رواية مختلفة للتاريخ ورؤية دينية مختلفة، إذ إنه ليس مهما ولا ممكنا أن يتفق الشيعة والسنة على نفس الرؤية والرواية، بل ليس مهما أن يكفر كل طرف منهما الآخر أو يعتبره مؤمنا، بل المهم أن يدرك الطرفان أنهما وجدا في هذه المنطقة وسيستمران فيها، وأنه لا بد من السعي الدائم لبناء مجتمع يحتفظ فيه الطرفان بحق الوجود وحق الاختلاف، ويدافعان عن بقائه ضد أي عدوان خارجي. *الجزيرة نت