لا ينقص البلاد ترجمة العصبيات المذهبية الناجزة في الواقع إلى معارك خاطئة وصراعات دامية برزت مؤشراتها بشكل سافر مع بداية شهر كريم، يزعم مرضى العصبيات أنه فرصة للتسامح والغفران، لكنهم لا يتورعون عن نفخ الرماد عن جمر الفتن المستعر تحته متى ما وجدوا فرصة ملائمة لذلك. ما يحدث من معارك وصراعات على خلفية صلاة التراويح تعكس معضلتنا الخطيرة حين يكون خيار الصراع أقرب من التعايش، وتلك هي الآفة التي تتهدد المجتمع.. وإذا كان الأمر رغبة جامحة في فرض خيار اللون الواحد أياً كان، في أبسط الأمور وأقلها إثارة للجدل، والأقرب للحل، فكيف سيكون الحال في قبول حلول لقضايا مصيرية كتلك التي تناقش في مؤتمر الحوار، خصوصاً أن نخب “المتحاربين” تتحاور هناك، ويخوضون المعركة بما يتناسب والمكان الذي يتحاورون فيه، على مستوى الشريعة المفترى عليها. صلاة التراويح حق لمن يؤمن بأفضلية أدائها في المسجد، أن يؤديها في أي مسجد في الجمهورية، سواء كان في صعدة أو صنعاء أو تعز أو حضرموت، في حارة أغلبيتها الساحقة زيود او شوافع، إذ المساجد ملكية عامة وليست حكراً لأغلبية دون أقلية، أو حزب أو فئة أو جماعة، وهي الملكية التي تتساوى فيها ملكية الجماعة والفرد، دون ان يختلف أحد على ذلك سوى ذوي عصبية مقيتة لا تستقيم الحياة مع أمراضها. المذهب الزيدي معروف بتسامحه وانفتاحه على كل المذاهب.. قبل اندلاع حروب صعدة وخلالها، كنت أقيم في منطقة شعوب وأتردد كثيراً على أحد أصدقائي في صنعاء القديمة، لم أكن ألحظ أياً من الأمراض والعصبيات التي الاحظها اليوم. كنت أحياناً أصلي العشاء والتراويح في مساجد أغلب روادها من المذهب الزيدي، يغادر أكثرهم بعد صلاة العشاء، وبعضهم يظلون هناك لأداء صلاة التراويح، مع آخرين من المذهب الشافعي. كان القائمون على المساجد يتركون الأبواب مفتوحة لمن أراد البقاء أو الحضور لصلاة التراويح، بل إن بعضهم كانوا ينتظرون لساعة حتى يفرغ المصلون، في احترام تام لقناعتهم، حتى إذا فرغوا من الصلاة قاموا ليغلقوا المسجد بعدهم برضا تام ودون تذمر، بل ويشيعونهم بابتسامة ودعاء. وللمؤمنين المتشيعين لصلاة التراويح في بيئة عدائية مفخخة، لم يشرع الجهاد والتضحية بالنفس لإثبات حضور صلاة التراويح.. نفس الإنسان أولى بالحفظ والرعاية من صلاة التراويح، إذ أجاز الاسلام التنازل عن كثير من الالتزامات حال الإكراه (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، فلا ينبغي لهم أن يخوضوا معارك غبية تذهب لها أرواح هي أقدس عند الله من ركعتين متاح أداؤها هنا أو هناك في الأدلة النبوية التي يستندون إليها.. تبعات تلك العصبيات لن تكون رحيمة على السلم الاجتماعي، وثمة أطراف بأجندة أكثر قذارة تستغل حالة الاحتقان بين الطرفين، لتعمل على إكمال المهمة الناقصة.. وإيصال العصبية إلى ذروة الصراع، وأرى في هذا السياق مقتل شابين وجرح آخرين أمام الجامعة الجديدة، وجرح اخرين الخميس الماضي. ما هو حاصل الآن قذارة سياسية أو شبه سياسية متخلفة توظف كل الأدوات لصالح مشاريعها، والأغرب أن هذا التجييش يتم في أوساط بعضها تنادي بالدولة المدنية أو تعلن امتثالها لها. أولى بقيادات وعقلاء التيارات المتلفعة بالدين أن ترفق بالوطن في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه، إذ يخطئ من يعتقد أن بإمكانه فرض رأيه على المدى القريب أو البعيد، والأولى أخذ العبرة بمحاولات النظام السابق استهداف المذهب الزيدي، تبعاً لهواجسه على كرسي الحكم، وكما عاد الحوثيون اليوم ليمارسوا احتفالاتهم بالمناسبات الدينية الخاصة بهم، فأولى بهم احترام معتقدات الآخرين، كما هو أولى بالآخرين احترامهم واحترام طقوسهم ومناسباتهم وشعائرهم.. على الجميع أن يدركوا أن تكوين أو تغيير القناعات والمعتقدات تكون بالحوار والتفاهم والتعايش وليس بالعنف والقوة والعنجهية، وواهم من يظن أن يرسم مستقبل البلد بلون واحد، وأوفرهم حظاً في التقدم والظهور أكثرهم قدرة على التسامح والتعايش، وليس العنف والتطرف. [email protected]