جعل الله تعالى شهر رمضان محطة تعبدية مهمة في حياة المسلم للتزود بالباقيات الصالحات التي يجزي بها أصحابها أضعافاً كثيرة لا يعرف مداها إلاّ الله وحده. وهي فرصة ثمينة لكل مسلم لبلوغ مرتبة التقوى التي هي مقصد الصوم وغايته, وهو ما يستوجب منه تصحيح مساره ومراجعة حساباته ليس مع الله وحسب, بل ومع نفسه وأهله ومجتمعه والناس أجمعين. والغريب أن يعمد البعض لتحويل هذا الشهر الكريم إلى محطة صدام وصراع مع الآخر, وفرصة لإثارة النعرات الطائفية والخلافات المذهبية, التي من المفترض أننا قد نسيناها منذ أمد بعيد, ناهيك عن تركها كخلق إسلامي أصيل يُعلي من شأن الألفة والوئام ويذم الفرقة والشتات, لكن أولئك البعض, للأسف, يستهويهم دوماً اللعب في مربع الخلافات التي يحلوا لهم تحويلها على الدوام إلى صراع دام وعنف وسفك دماء, حتى في الشهر الفضيل.
وطبقاً لبعض القواعد الفقهية المعمول بها لدى المذاهب الإسلامية المعتبرة فإنه "لا إنكار في مختلف فيه", وثمة قاعدة فقهية أخرى اختص بها المذهب الزيدي عن سواه تقول "كل مجتهد مصيب", وتدخل صلاة التراويح في مضمون هاتين القاعدتين الفقهيتين, وبالتالي لا يجوز الإنكار على من يؤدي صلاة التراويح جماعة في المسجد, كما لا يجوز في الوقت نفسه الإنكار على من يرى أفضلية تأديتها في البيت, فكل مجتهد مصيب.
والقاعدة الفقهية سالفة الذكر هي قاعدة أصولية عظيمة القيمة, لجهة كونها تؤسس لقيم التعايش والتسامح والقبول بالآخر وعدم الانتقاص منه ومن اجتهاداته, إلاّ أن البعض, للأسف الشديد, يمارس تعصباً أعمى لمذهبه دون أن يكون على دراية ومعرفة كافية بأصول وقواعد المذهب الذي يتعصب له, فيظن أن الدين كله مقتصر فقط على ما يعتقده هو وإن عن غير علم, أو ما يقول به مذهبه وإن عن غير إحاطة.
ونتيجة لذلك الجهل المتوارث وقلة العلم والتعصب الأعمى للرأي والمذهب والإنكار على الآخر إجتهاده, فقد خرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن حدوده الشرعية وقواعده الأصولية المعتبرة لينحو صوب حظر الصلاة وقتل الركع السجود في بيوت الله, على اعتبار أن صلاة التراويح بدعة يتعين محاربتها والتصدي لها بكل قوة, وإن أدى الأمر إلى إزهاق أرواح المصلين, وسفك الدماء وترويع الآمنين.
إن هؤلاء الذين منحوا أنفسهم حق الوصاية على الدين وتقديمه للناس وفق أهوائهم, باعتبارهم مخولين بتفسيره حسب ما يعتقدون, يصادمون قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). ويغفلون أن دين الله أوسع وأعظم من أن يحويه رأي أو مذهب.
مشكلتنا الجهل والتعصب وإنكار الآخر, ومحاولة البعض احتكار الحقيقة واختزال الدين في وجهة نظره, وإسقاطه على مذهبه وحده, وإلغاء ماعداه, حد وضع المخالفين لمعتقده في خانة المروق من الدين المستوجب للتقويم, لكن ليس بالتي هي أحسن بل بالرصاص الخارق الحارق. العجيب أن هؤلاء المفتونون بغطرسة القوة ووهم الإصطفاء, المفتون ببدعة صلاة التراويح هم أنفسهم من يشكون ويبكون من منهج التبديع والتفسيق الذي قالوا بأن البعض يمارسونه ضدهم, ومع ذلك فهم لا يجدون غضاضة في ممارسة الأسلوب نفسه مع الآخرين!
إن قتل الناس في المساجد وصدهم عن عبادة الله من خلال منعهم من تأدية صلاة التراويح, وتحويل بيوت الله إلى متكئات ومجالس لممارسة طقوس ما أنزل الله بها من سلطان, وتعطيل إقامة شعائر الله فيها هو من الصدّ عن سبيل الله, وإيقاض للفتنة النائمة التي لن تخدم إلاّ أعداء الإسلام, فهل آن لنا أن نستيقظ وندع الفتنة نائمة؟!