عندما خرجت تعز أمس ومعها اليمن بتلك الكثافة والحماس غير المتوقع لإحياء الذكرى الأولى لمحرقة ساحة الحرية بتعز .. إنما لتؤكد وجود تغيير حقيقي وجذري في عقلية ونفسية المواطن اليمني وأن لديه ذاكرة قوية وجديدة لا تنسى الحوادث والأحداث وأن زمن الذاكرة المهترئة ولى وأنها تتعامل بذاكرتها الجديدة مع التاريخ باتعاظٍ واقتدار ، لقد كانت آفة المواطن العربي واليمني خصوصاً (النسيان) وشعب بلا ذاكرة (ودعه الله) .اليمنيون عاشوا بدون ذاكرة تقريباً ، وكان الحكام والمستبدون والمستعمرون على حد سواء يعتمدون على ضعف ذاكرة الشعوب ليمارسوا عليهم ألاعيبهم المختلفة ويمرروا مشاريعهم السوداء وحيلهم ثم يكرروها مراراً معتمدين على كلمة مزهنقة وكلام منمق ومخادع وذاكرة جمعية مثقوبة ، مجرد استعطاف لفظي أو تشويش ينتهي كل شيء ولا يظهر إلا هذا التواضع وتلك الطيبة والمسكنة من رجال كانوا في الأمس يمثلون الجريمة والقسوة تمشي على أقدام بشر. هذا النسيان هو الذي يمنع الشعوب من الاستفادة من تراكمات التجارب وتأسيس منجز حضاري على شكل دولة مؤسسات ونظام عادل وقانون وثقافة عامة ورأي عام قوي لا يسمح بتكرار الأخطاء وعودة الخطايا أو أن تنتج نفسها من جديد. نحن في أمة تعيد إنتاج أخطائها وخطاياها بشكل متكرر..الاستبداد ينتج نفسه كل يوم ولا يحتاج إلا أن يغير خطابه أو جلده مثل (الثعابين) ليعود يجلدنا من جديد ، وبمجرد تغيير الجلد أو مرور الزمن نتعامل مع الكيان نفسه والمجرم ذاته وكأنه شيء جديد وكأن معاركنا مع الجلد و(الخلاضة) وليس مع (الثعابين) وسمومها والأنظمة المستبدة ورموزها وبسبب خبرة الطغاة بذاكرة الشعوب العربية فإنها دائماً ما ترمي بجلودها للشعوب لتتوهم النصر وتنسى الثعابين وتعود لتتجرع السم مكتفية بتمزيق (خلاضة) جلد الثعبان. إن (التسامح) وهو صفة حضارية راقية ولازمة لا يستقيم أبداً مع (النسيان) وهو هنا ليس تسامحاً وإنما ضعف و(هبالة)..والتسامح لا يأتي إلا من ذاكرة قوية ومتقدة .. (المتسامح) يعفو من موقع قوة لكنه لا يكرم المجرمين ولا يعطيهم الثقة (فكيف أأمنك وأثر فأسك مازال على رأسي) الشعوب المتسامحة لا تنسى ولهذا فهي لا تبقي القتلة في مواقعهم التي مارسوا القتل والفساد منها ولا تدع (السكاكين) التي ذبحوا فيها الناس في أيديهم لأن هذا ليس تسامحا وإنما ضعف ونسيان .. الشعوب تسامح نعم ، لكنها لاتنسى لأن النسيان بوابة لضعف وضياع عزائم الشعوب.. فلا عزيمة مع النسيان ..مايجري من ثورة دائمة يعني أن الثورة أيضاً كانت ثورة على النسيان و(السخافة) الشعبية..وان ذاكرة الشعب لم تعد مثقوبة.