من يمعن عقله وفكره قليلا في بعض أقوال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سيدرك كم كان يحب الحياة، ولكن ذلك الحب وتلك الحياة المختلفان عن عوالم كثير من الناس في هذا الزمن، الحب والحياة هذه المعادلة التي تختلف من شخص لآخر بحسب اهتماماته وأولوياته فيهما، منهم يريدها لذاتها ومنهم من يريدها لآخرته وهذا هو الفرق بين الفريقين في حبهما وحياتيهما. لقد أساء الفهم أناس حسبوا الدنيا متعة محضة ولذة لا يجب أن يكدرها منغص ، ومن ذا الذي صفت حياته من المنغصات والمكدرات حتى أحب الخلق إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم عاش حياة الشظف والحرمان ومع ذلك كان يحبها في أجمل ما يكون الحب لا لشيء إنما لعمارتها وتعبيد الله فيها ،ولإقامة أجود الأخلاق ونشر أرقى القيم وتعبيق أجواء الناس بأجمل السلوكيات، وتعطير حياتهم بأذوق التصرفات وبث أحلى الثقافات، هذه هي الحياة الحقيقية التي كان ينشدها محمد صلى الله عليه وسلم وكان له ما أراد حتى اصبح من يعشقون الحياة لقيمها وأخلاقها وحضارتها ورقيها يعدون امتداد طبيعي للحياة الرائعة التي أقام مداميكها البديعة وبواكيرها الزاهية صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وصاحب السيرة الأخلاقية التي يقف عندها اليوم كبار مفكري العالم شرقه وغربه بمختلف أديانهم. وأقف هنا معك أخي القارئ لأضع أصبعي وإياك على ما يمكن تسميته بداء أعيا الأطباء عن مداواته ، لرجل ظني فيه أنه من شدة قنوطه ويأسه في الحياة ذهب يتخيل في قصيدة رثي فيها نفسه زيارة ملك الموت له ، والعجيب الذي استوقفني كثيرا هو من أين لهذا الشاعر بهذا النفس التشاؤمي عن الحياة في الوقت الذي نحن مطالبون بعمارتها والعيش في ظلالها نتنفس من هواء روائعها ، ونستنشق عبير جمالها ، والأعجب الذي تزداد معه صدمة الإنسان هو أنه -أي هذا الشاعر الذي رثى نفسه بهذه القصيدة- مات بعدها بيومين أثر حادث مروري كما حكى من نشر قصيدته في أحد المواقع ، ومن ضمن ما جاء في قصيدته قوله: جاني وأنا في وسط ربعي وناسي*جاني نشلني مثل ما ينشل الناس مني نشل روح تشيل المآسي*تشكي من أيام الشقى تشكي الياس اثر الألم في سكره الموت قاسي*ماهالني مثله وأنا إنسان حساس ثم يعرج فيها على ذكر كثير من المراحل التي يمر بها أي ميت من بكاء أهله عليه وتغسيله وتكفينه والمسير به إلى المقبرة حيث مثواه الذي سيدخل من خلاله إلى عالم الآخرة. لست ممن يعتقدون - لظاهر الأمر كما سيظن البعض- أن الشاعر أراد بشعره ذلك أن يطلب الموت كي توهب له الحياة، لأن طلب الموت الذي يهب الحياة هو ذلك الطلب الذي يسعى من خلاله الإنسان لأن يبذل جهده في سبيل الارتقاء بنفسه ومجتمعه وأمته، لا أن يتخيل نفسه ميتا ذلك الموت الذي عندما جاء لخالد ابن الوليد وهو على فراش المرض قال قولته المشهورة "قاتلت مع رسول الله وما موضع شبر في جسمي إلا وفيه طعنة رمح أو ضربت سيف وها انا اليوم أموت كما يموت البعير ألا فلا نامت أعين الجبناء "لقد كادت أن تنفلق كبده والموت يزوره وهو على فراش الموت وهو الذي طلب الموت في جميع معاركه التي خاضها مع المسلمين ثم يموت كما يموت البعير لقد تمنى أن يعيش إلى بعد ذلك اليوم الموعود يواصل مشوار جهاده في سبيل الله ذلك الجهاد الذي فتح بسببه بلدان الدنيا للمسلمين الذين كانوا يحبون الحياة لتعميرها وتطويع كل ما فيها لله عزوجل، خاصة وأنه ما من أحد من الناس في هذه الدنيا إلا وقد تعثرت به الحياة في مرحلة من مراحلها، أو في نقطة فاصلة من نقاطها فلقد ذكر لنا التاريخ أن محمد المهلبي كان فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه. حتى أنه سافر ذات مرة فأخذ يتمنى الموت من شدة فقره ويقول: ألا موت يباع فأشتريه *** فهذا العيش ما لا خير فيه ألا موت لذيذ الطعم يأتي *** يخلصني من العيش الكريه إذا أبصرت قبراً من بعيد *** وددت أنني مما يليه ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على أخيه فقام صاحب له ورثى لحاله وأعطاه درهما. ثم تمر الأيام ويعتني المهلبي بنفسه تاركا ورائه سود الليالي والأيام التي كان من شدة قسوتها يتمنى معها الموت ، ويجتهد ويترقى في المنصب، حتى أصبح وزيراً، وضاق الحال بصاحبه (الذي أعطاه درهماً). فأرسل رقعة إلى محمد المهلبي كتب فيها: ألا قل للوزير فدته نفسي *** مقال مذكر ما قد نسيه أتذكر إذ تقول لضنك عيش *** ألا موت يباع فأشتريه؟ فلما قرأ محمد المهلبي الرقعة أمر له بسبعمائة درهم،ثم كتب تحت رقعته قوله - تعالى -:" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم".ثم قلده عملاً يسترزق منه،ترى هل ركن المهلبي إلى فقره ورضخ إلى حاله البائس؟أم أن نفسه التائقة إلى السمو دفعته كي يكون شيئاً مؤثراً له قيمة ووزن في هذه الحياة؟إن فقره وضيق حاله لم يمنعاه من المساهمة في هندسة الحياة وإحداث التأثير الذي أراده هو لنفسه. و كما قيل: لا يدرك المفاخر، من رضي بالصف الآخر فلماذا الجبن والخور وما هو الداعي أصلا أن يتخيل الإنسان نفسه ميتا والناس يرثوه ؟ وبعيدا عن المثالية أسأل لماذا الخوف من الموت ؟ وسيرة المصطفى تحكي لنا أن خالد بن الوليد شارك معه ومع غيره تسع وتسعين معركة ولكنه لم يمت في أي واحدة منها ، ومات على فراشه، فالموت آتيك بطريقة أو بأخرى عندما تستوفي أجلك، لا يقدم الجهاد موتك ولا يدفع الرخاء أجلك، وما اجمل قول الشاعر الذي سمت نفسه حتى كادت تعانق السماوات حين قال عن طبيعة حبه للحياة أحب الحياة. أُحِبُّ الْحَيَاةَ سَمَاءً وَأَرْضَا وَنُورًا يَعُمُّ انْسِيَابًا وَفَيْضَا وَطَيْرًا يُغَنِّي وَزَهْرًا وَرَوْضَا وَقَلْبًا يَهِيمُ انْجِذَابًا وَنَبْضَا أُرِيدُ الْحَيَاةَ بِغَيْرِ جُمُودْ فَأَسْمُو بِفِكْرِي لِرُوحِ الْخُلُودْ وَيَمْلَأُ نَفْسِي ضِيَاءُ الوُجُودْ بِغَيْرِ انْتِهَاءٍ، بِغَيْرِ حُدُودْ يُرَدِّدُ شِعْرِي صَدَى بَسَمَاتِي وَيَنْشُرُ عِطْرِي رُؤَى هَمَسَاتِي وَتَلْهُو الرِّيَاحُ عَلَى خُطَوَاتِي فَحُبِّي وَشِعْرِي غِذَاءُ حَيَاتِي. صِرَاعُ الْحَيَاةِ بِهِ لَذَّةٌ تَفُوقُ وَتَعْلُو عَتِيقَ الشَّرَابْ وَنَفْسُ الْكَرِيمِ تَرَى عِزَّهَا بِصَدِّ الْخُطُوبِ وَقَهْرِ الذِّئَابْ بِقَلْبٍ تَحَدَّى صُرُوفَ الزَّمَانِ يَصُونُ الزِّمَامَ وَيَرْعَى الْجَنَابْ تَكَابَدَ عِبْئًا يَنُوءُ بِهِ وَيَقْصُرُ عَنْهُ حَمَاسُ الشَّبَابْ إِذَا خِفْتَ خَوْضَ غِمَارِ الْحَيَاةِ وَجَدْتَ الْحَيَاةَ كَلَمْعِ السَّرَابْ إِلاَمَ بَقَاؤُكَ فِي حُفْرَةٍ وَتَتْرُكُ شُمَّ الذُّرَى وَالقِبَابْ فَإِمَّا الصُّعُودُ لِمَسْرَى النُّجُومِ وَإِمَّا سَتَبْقَى سَجِينَ التُّرَابْ فَهَيَّا لِنَنْظُرَ صَوْبَ السَّمَاءِ لِنُحْصِي الشُّمُوسَ بِهَا وَالشِّهَابْ. *أشراقة سنحيا كراما لأوطننا*ونبني من العدل مستقبلا نشارك تغيرنا كلنا *على النفس ثوراتنا اولا نفك قيود الهوى والفساد *وبالعلم ننهض في كل واد وهاذي خواطر جيل البناء*نريد بها نفعه للبلاد سنبني اذا ما هدمتنا العلل*ولسنا نقبل أي خلل بإحساننا تستقيم الحياة*خواطر دعوة للعمل