كان مما قاله لي نائب لبناني (لم أعد أتذكر اسمه) حكاية رائعة نقلها من ريف بلاده الأنيق، مفادها أن أهالي القرية شكون إلى "المختار" "العاقل" وقالوا له: يا مختار القرية، الطحان عم يدينا المكيال ويحسبه مكيالين، فقال لهم: حاضر، راح أغيّر الطحان، وغيّره، وبعد فترة جاءوا إلى "المختار" بنفس الشكوى، فقال لهم: حاضر، راح أغيّره، وغيّره بطحان ثالث، وبعد فترة جاءوا إلى "المختار" بنفس الشكوى، فقال لهم: حاضر، راح أغيّره، قالوا له: يا مختار القرية، ما بدنا اياك تغيّر الطحان، بدنا تغيّر المكيال! ونحن "ما بدنا اياه" من علي صالح سابقاً، وهادي حاليا، ليس تغيير الأشخاص "الطحان"، إنما تغيير السياسات "المكيال". كم شخص تعاقب على منابع الفساد في مؤسسات الدولة: الصحة، التعليم، التخطيط، المالية، الثروة السمكية، النقل، الدفاع، الداخلية، الخارجية، الكهرباء، الجمارك، الضرائب، جهاز الرقابة والمحاسبة، البنك المركزي، المؤسسة الاقتصادية، كاك بنك، الأوقاف، هيئة المستشفيات الكبرى، وأخيراً الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، هذه نماذج لمؤسسات امتلأت بالفساد، وتعايشت معه طوال عشرات السنوات، وأصبحت ترى نفسها مستحيلة العيش من غير فساد، مالي، وإداري، وأخلاقي. أُقَدِرُ، وأحملُ كثيراً من الاحترام لدور هيئة مكافحة الفساد في الفترة الماضية، حاولت تحرك مياه آسنة، حاسبت وحققت، ونجحت في قليل، وأخفقت في كثير، لأنها لم تكن وحدها متخذة القرار الأول، فالقانون نفسه قيّد صلاحياتها، وجعلها عاجزة عن محاسبة من كان في موقع نائب وزير، فأعلى، بمعنى: أنها "عبدو حيرو" على وكيل وزارة وأقل، أما الفاسدين الكبار، فهم محميات طبيعية للفساد، لا يطالهم شيء. وظلت الهيئة طوال السنوات الماضية، تعمل تحت ضغوط عليا، لا تتوقف، فكل فاسد صغير، له "حبل سري" مع الفاسدين أعلاه، أكتب ذلك وأتذكر محاولة الهيئة توجيه تهم فساد ل"حسين الذماري" الرجل الذي قيل أنه يتقاضى سنوياً مبالغ ضخمة، وبالدولار، من وزارة المغتربين، ورئاسة الحكومة، لدعم مدارس الجاليات اليمنية في أفريقيا!، مسألة مخزية، فالدولة لم تهتم برعاياها في الداخل، فكيف سيلحقهم دعمها إلى الخارج! احتدم الخصام بين وزير المغتربين السابق "صالح سُميع" وحسين الذماري، وأدرك الوزير أنه الأخير متعود اختلاس أموال من الخزينة العامة، ورفض "سُميع" توجيهات مدير مكتب الرئاسة السابق "علي الآنسي"، بالصرف، ورفع القضية إلى "مكافحة الفساد" وأقتنعت الأخيرة بفساد "الذماري"، وقررت إحالته إلى نيابة الأموال العامة، وهنا أنقل الرواية لأول مرة على لسان أحد أعضاء الهيئة أن ضباطاً من "الأمن القومي" جاءوا على طريقة أفلام هوليود: سيارات معكسة، بدلات سوداء، ربطات عنق غامقة، نظارات سوداء، أجهزة لاسلكية، ودفعوا بوابة الهيئة بأقدامهم، ودخلوا إلى الطوابق العلوية، وقال أحدهم بغضب: أين الآنسي، قله يخفف من الرجاله شوية، قبل ما نسحبه على وجه؟! وغادروا. فهم "أحمد الآنسي" رئيس الهيئة الرسالة بوضوح، فقد قِيلَ يومها أن "الذماري" صهر "علي الآنسي" مدير مكتب الرئاسة، ورئيس جهاز الأمن القومي، سابقا، وقررت هيئة مكافحة الفساد إغلاق الملف، وتقييد القضية ضد مجهول، وبعدها بفترة قصيرة استقال "سُميع" من وزارة المغتربين! وكان بإمكان الهيئة هنا مكاشفة الشعب بما يجري، غير أن شخصية "أحمد الآنسي" تعمل على طريقة "بان كي مون" الذي يلقب في وطنه "كوريا الجنوبية" ب"السمكة الصغيرة" التي لا يقدر أن يمسكها أحد، وقرر "الآنسي" السكوت وعدم الاصطدام بالعتاولة! يكثر الحديث الآن عن 30 اسماً قدمها الرئيس هادي إلى مجلس الشورى، لتزكيتها، ورفعها إلى البرلمان، والأخير يختار منهم 11 شخصاً، ثم يصدر بهم قرار جمهوري بتعيينهم أعضاء في هيئة مكافحة الفساد، بدلاً عن الحاليين، والملاحظ أمرين: الأول: أن الشورى لم يعلن عن فتح باب الترشح لعضوية الهيئة كما في السابق، بل انتظر قرار مخالف من الرئيس هادي، صحيح أن من حق الرئيس ترشيح الأسماء في حالة عدم التوصل إلى توافق حول قائمة المقترحين، وفقاً للآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، أن من حق رئيس الجمهورية، اتخاذ القرار الفصل في المسائل الخلافية بين القوى السياسية، لكن الرئيس هادي استبق الزمن، وحسم الذي لم يختلفوا فيه. الأمر الآخر، معظم الأسماء المتداولة في سوق الصحافة والسياسة، ومواقع التواصل الاجتماعي، على أنها المقترحة من قبل الرئيس، تفوح منها رائحتان: الفساد، وضعف الشخصية! وعلى طريقة النائب اللبناني في الحديث: "ما بدنا اياك يا ريس تغيّر الطحان، بدنا تغيّر المكيال"، لا تغيروا الوجوه، لكن غيروا السياسات. عن الناس الأسبوعية