لا يستطيع أي مراقب موضوعي إلا أن يسجل ما أبداه الحراك الشعبي اليمني والأحزاب والقوى السياسية، حتى اللحظة، من وعي وانضباط أبعد شبح حرب أهلية، حبست أنفاس الجميع خوفاً من وقوعها في بلد يعج بغابة من السلاح والانقسامات القبلية والحزبية الجهوية، وكاد يشتعل فتيلها في أكثر من منعطف في الصراع بين السلطة والمعارضة. وكذلك الصراع بين أجنحة السلطة، وانقسام المعارضة على نفسها، والتباينات الحادة التي برزت بين تلك القوى والحراك الشبابي على خلفية الموقف من "المبادرة الخليجية" لانتقال السلطة سلمياً، ومنح الرئيس صالح حصانة قضائية. البعض مازال يرفض اعتبار نقل السلطة من الرئيس السابق علي عبد الله صالح إلى الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، والذي كان يشغل منصب نائب الرئيس، بمثابة تغيير حقيقي في بنية نظام الحكم، والبعض الآخر يصف ما أنجز بنصف ثورة، ويتطرف البعض باعتبار كل ما أنجز التفافا على مطالب الحراك الشبابي.. الخ. وربما تمتلك تلك التوصيفات مشروعية بكونها على قدرٍ كبير من الموضوعية في قراءتها، لولا أنها تظل توصيفات ترصد مجريات العامين الماضيين من زاوية أحادية الجانب، تحجب عن الناظرين من خلالها الصورة البانورامية الكاملة للمشهد اليمني، الأشواط التي قطعها وتلك التي مازالت في خانة الانتظار. وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء، شككت المعارضة في جدية تخلي الرئيس صالح عن السلطة، ولم تر في مناوراته إزاء "المبادرة الخليجية" محاولات لتحسين خروجه من الحكم، بل رأت فيها دليلاً على تشبثه بكرسي الرئاسة. وتم التشكيك أيضاً في نوايا الرئيس عبدربه منصور هادي بتحقيق تغيير جوهري، ومقدرته على ذلك حتى لو توافرت النوايا، ولم تسلم حكومة محمد سالم باسندوه من الطعن بها وبرئيسها. غير أن الرئيس صالح رحل في نهاية المطاف، وما أنجز على محدوديته أنقذ البلاد من حرب أهلية وانهيار مؤسسات الدولة، ومن التدخلات الخارجية والوقوع في قبضة مجموعات متطرفة، وهذا انجاز مهم يعطي ل"الربيع العربي" بنسخته اليمنية فرصة شق طريق ثالث، بعيد عن دوامة عنف دموي، كما وقع في ليبيا وتعيشه سورية بفصول أشد قسوة بكثير، وبعيد عن المرور بفترة حكم عسكري انتقالي كما حصل في مصر، والذي لم يكن لينجح في اليمن لافتقار الجيش اليمني إلى الهيكلية والمهنية التي يتمتع بها نظيره المصري. ويسجل للرئيس عبدربه ورئيس الوزراء باسندوه تعاملهما بروية ودأب مع المشكلات الكبيرة والمعقدة للمرحلة الانتقالية، وصعوبة معالجة البنية العائلية والقبلية للنظام السابق والخادمة لحكم فردي أقامه الرئيس صالح وكان يطمح إلى توريثه لابنه. ولم يتردد الرئيس عبدربه في مواجهة سطوة عائلة سلفه، وتفكيك شبكة نفوذها في مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، والحد من امتيازات رجال حزب "المؤتمر الشعبي العام" الموالي لصالح، والعمل على تذليل عقبة الدعوات الانفصالية عبر البحث عن أرضية وضمانات آليات تكفل إنجاح الحوار الوطني على قاعدة الوحدة، وإزالة مظالم العقدين الماضيين جراء عدم توازن سياسات الدولة في التعاطي مع محافظات الجنوب، وترك ذيول الحرب الأهلية، التي حدثت عام 1994، دون معالجة جذرية وصحيحة، مما أبقى النزعة الانفصالية الجنوبية تحت جمر السياسات الفردية الاستبدادية لنظام الحكم العائلي السابق. ويبقى أمام الرئيس عبدربه والحكومة الانتقالية، انجاز العديد من المهمات كي تصل العملية الانتقالية إلى بر الأمان، وأول تلك المهمات عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، بمشاركة كل الأحزاب والقوى السياسية وممثلي الحراك الشعبي، وعدم قطع الحوار مع "الحراك الجنوبي" الذي تخلف عن تسليم اللجنة الفنية برئاسة الدكتور عبد الكريم الإرياني قائمة بممثليه في المؤتمر. ولا ننسى أن لوعي قادة الحراك الشعبي، لاسيما الشبابي، المعارض لنظام حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الفضل الأكبر في منع انحراف الاعتصامات والاحتجاجات عن طابعها السلمي، رغم ما مورس ضدهم من استفزازات، ومواجهات دموية أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى، حيث أدرك قادة المعارضة في الشارع أن اللجوء إلى العنف سيحرفهم عن قضيتهم، وسيغرق البلاد في جحيم حرب أهلية وقودها العصبيات القبلية المدججة بكل أنواع السلاح. المشهد اليمني قبل عام حفل ببوادر انزلاق نحو الفوضى واقتتال قبلي يفكك بنية الدولة فيها ويجرها نحو حرب أهلية، وتصاعد الصدامات الدموية بين أنصار الرئيس صالح ومعارضيه، والاشتباكات المسلحة بين القوات الموالية للرئيس صالح والقوات المنشقة عنها بقيادة اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية وقائد الفرقة اليمنية الأولى المدرعة، وكذلك بين وحدات الجيش اليمني ومسلحين قبليين امتدت إلى قلب العاصمة صنعاء، في ظل ارتفاع منسوب التحشيد القبلي والاتهامات المتبادلة بين طرفي الأزمة، والدعوات إلى الحسم. وقبلها وبعدها تم خوض جولات من معارك سياسية لتفسير بند إعادة هيكلة مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية في نص "المبادرة الخليجية"، مالت كفتها أخيراً إلى جانب الرئيس عبد ربه، وأصدر قرارات جريئة في هذا الشأن لم يتوقع الكثيرون أن يقدم عليها. ومن المفاجآت التي أذهلت المتابعين للأوضاع في اليمن؛ الحس السياسي العالي لدى قادة الحراك الشبابي والشعبي المعارض، بإدراكهم أن منطق العقل في معالجة الأزمة يتنافى مع منطق معارك كسر العظم والتعنت وراء تكتيكات فرض الحد الأقصى من الشروط، وبهذا أجبروا الطرف الآخر على إدراك أن التحايل على الحلول الوسط بتفسيرات تشوش على آليات تنفيذها، فليس من مصلحة أحد إطالة أمد الأزمة، باستعراض القوة في الشارع والتهور السياسي والتلويح بالحسم العسكري. أما المشهد اليمني اليوم؛ فتسوده آمال كبيرة معلقة على الحوار الوطني الشامل، بأن يكون منصة انطلاق إلى تحقيق الانجازات الكبرى، كي تكتمل الثورة بدستور جديد وقانون انتخابي ديمقراطي تعددي، يوصل اليمنيين عبر صناديق الاقتراع إلى اختيار نظام حكمهم بحرية ونزاهة وشفافية، يستحقها شباب ونساء ورجال اليمن، الذين أذهلونا بوحدتهم على رفض عسكرة الثورة، فكان أن وضعوا بصمة يمنية خاصة في ميادين "الربيع العربي"، نتمنى أن تتكلل بنجاح الحوار الوطني الشامل، ليبدأ الطريق الأصعب، فالحوار ليس نهاية المطاف لأن العبرة بتنفيذ ما سيتم التوافق عليه من قرارات وتوجهات.