إنها لعنة الثورات العربية، فبلدان ما عُرف بالربيع العربي تعاني من حالات عدم التوازن والخواء الفكري وتصارع الإرادات، حتى بين صانعي التغيير أنفسهم، فالثورات الأخيرة لم تصل حتى لمرحلة أن تأكل أبناءها، كما يقال، بل إنها أكلت نفسها وهلك بعض منها قبل أن تأتي ثمارها! وذلك من خلال ما عُرف بالمرحلة الانتقالية، ففترة انتقالية تلد أخرى فيضيق الأمل، وتتمدد حالات الإحباط والقنوط، فهل قُدر للعرب خياران، دكتاتوريات صارمة او ثورة عارمة، حيث تراوح تاريخها الحديث بين سلطة العسكر والحزب الواحد وتمجيد الزعامات، والخضوع لسيطرة الفرد أو القبيلة والطائفة، او ثورات يشوبها الفوضى والعنف والتأمر من الداخل والخارج. فقبل نحو عامين او يزيد بدأت ملامح الثورات العربية تتوالى، وقتها هلت بعض التباشير وتطلعات المقهورين تنطلق بالأمل، والرجاء يحلق في آفاق التحولات المنتظرة، تزامن ذلك مع حراك شعبي غير مسبوق شهدته بلدان ماع ُرف بالربيع العربي، التي تباينت في مظلوميتها والتي جمعتها رغبة الانعتاق من حكم الفرد او المجموعة، سواء كانت قبيلة أو حزباً او مجموعة عسكرية تتلحف بالجمهورية وتزعم الديمقراطية ولكنها تمارس افعال الملكيات الطاغية المطلقة، سواء بالسير نحو التوريث او احتكار مفاصل السلطة وتكميم الأفواه والعبث بمقدرات الوطن. فرضت التحولات نفسها على أكثر من بلد عربي، وغدت متأرجحة بين طموحات وآمال كبيرة وإحباطات عميقة تزداد يوما بعد يوم، فالمرحلة الانتقالية في هذه البلدان غدت بمرور الزمن تضيّق آمال شعوبها أو تكاد تتلاشى في زحمة الأحداث وتلاحقها في مسلسل درامي مؤسف، وكذا لمن يعول عليهم مسيرة تلك التحولات المفترضة. فما يجري في بلداننا العربية من مآسٍ ومحن منذ استقلالها وتحديدا في العقود الأخيرة، يجعل المتابع يرى الزمن قد توقف في منتصف القرن المنصرم، أي خمسينات القرن الماضي، بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، ومنذ تلك العلامة الفارقة بدأ الأعداء يتصالحون بينما قُدر لبعض البلدان العربية الدخول في مسلسل العبث والتجارب، وهي النقطة المثيرة للجدل والتساؤل، هل نحن العرب غير مؤهلين للديمقراطية، وهل الأنظمة الملكية هي الأنسب، بغض النظر عن طبيعة تلك الأنظمة المتبقية، مُطلقة كانت او مُقيدة بدستور، وسواء تلك التي تحظى بموارد أو التي تعتمد على قطاعات تنموية أخرى وتعتبر الإنسان موردا أساسيا، فالأردن والمغرب أفضل من بعض الجمهوريات النفطية، على سبيل المثال. وفق هذا المفهوم يعتقد بعض المحللين والمفكرين في أكثر من بلد عربي أنه وبعد أفول بعض الأنظمة العربية الكلاسيكية، التي نهجت الملكية عقب الاستقلال تحولت النُخب الاجتماعية فيها إلى نخب مغامرة، وتحولت في عشية وضحاها إلى جمهوريات، اما ديكتاتورية او بواجهات ديمقراطية تحت قيادة ما عرف بالحزب القائد، الذي تتمحور حوله كل تفاصيل الحياة من أصغر الأمور لأعظمها، غير مدركة أن العبرة ليست بشكل الحكم ولكن بعقلية النُخب الحاكمة، فتحولت العسكرتارية بداية الى سلسلة من المآسي والمحن لبعض من دول المنطقة، ولم تلفح الأنظمة العربية اليسارية والجمهوريات العسكرية وكذا بقية الأنظمة العربية إلا في خاصيتين، هما الجانب الأمني والجانب الإعلامي، فمؤتمر وزراء الداخلية العرب يُعتبر من انجح المؤتمرات العربية، حيث يتفق الجميع على امن النظام الإقليمي الراهن، ولا نجد هناك تبايناً صارخاً، كما يحدث في القضايا الأخرى السياسية والاقتصادية ونحو ذلك، بينما الخاصية الثانية وهي آلتها الاعلامية حيث سُخرت مقدرات البلدان، غنية كانت او فقيرة، لكافة الوسائل الإعلامية وتفننت في دراسة نفسية الشعوب المغلوب على أمرها بتمجيد الزعيم الرمز والقائد الضرورة وإذكاء النعرات والفوارق السياسية بين نظام وآخر، ناهيك عن القنوات الدينية المسيسة والفتاوى المزاجية ونحو ذلك. الإشكال الجوهري في التفكير الجمعي العربي أن الإنسان العربي غدا يفكر بعقلية حاكمه، ولا يتبين للبعض مدى حجم الفساد والظلم إلا بعد رحيله! فقد ينظرون لحياتهم وفق رؤية النخب الحاكمة، التي يحلو لها الترويج لمثل تلك الثقافات. ولم يتجرأ الانسان العربي على إطلاق العنان لحرية الفكر بدراسة كل الظواهر وفق رؤية شخصية ومن ثم وطنية في قراءة تاريخه. ومن هنا يتضح سر الحنين للماضي القريب او البعيد، ففي العراق على سبيل المثال لاحظت قطاعات كبيرة في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي تحن للزمن الملكي، وتعيش على قيم افتراضية افتقدتها، ذلك لان الملكية العراقية بقيادة الملك فيصل ومن ثم ابنه غازي وبعده فيصل الثاني كان حلاً مثاليا للعراقيين، فالعرب فرحوا به كونه عربيا أصيلا والكُرد استبشروا به كونه مسلما محايدا، بينما الشيعة رضوا به كونه من آل البيت، وبهذا لو كان العراق ملكيا لكان له شأن آخر، ورغم ذلك فان العراق حتى في السبعينيات وحتى الثمانينات اصبح شيئاً من الماضي الجميل لكثير من العراقيين الذين يحلمون بذلك العصر، الذي كان العراق مقارنة بما هو اليوم لا يقارن بأي حال من الأحوال. وهو الأمر نفسه لليمن سواء في الجنوب او في الشمال، ففي الجنوب يتغنون بأيام الرخاء الانكليزي والنظام والرقي المبكر قياسا بدول المنطقة، وفي الشمال يحنون لزمن العهد الملكي الذي كان للدولة هيبتها رغم بساطتها، وليس للمشايخ اعتبار مبالغ فيه، وتدخل في السياسة والاقتصاد على النحو الظاهر اليوم، ولا انتشار للسلاح أو للقات كما هو الحال عليه بعد ثلاثة عقود ونيف من مسخ الهوية اليمنية، بمعنى كانت الظروف مواتية لتحولات كما حدثت في عُمان، بل وأفضل منها، كانت دولة لها هيبتها في العهد الملكي رغم بساطتها، والبعض يحن لأيام السبعينيات التي كانت، فذلك العقد كان معظمه فترة القاضي الارياني والحمدي، فعلى الأقل كانت هناك بوادر تكوين دولة، وهكذا دواليك. وقبل ذلك وفي الستينيات من القرن الماضي عانى اليمنيون في الشطر الشمالي لثماني سنوات من الحروب وحالات عدم الاستقرار، بعدما تعرض اليمن لمؤامرة إقليمية ودولية، ودخل النظام الجديد في مرحلة استقطاب الصراع الإقليمي والدولي، ابان الحرب الباردة ولسان حال شريحة من الشعب حينها يقول، بأن اليمن لو بقى ملكيا لتطور ببطء او في اسوأ الأحول تجمد مكانه لعقد كامل، ومن ثم سينطلق تدريجياً كما هو الحال مع جيرانه، بحيث ان فترة الجمود المفترض كانت مقاربة لتلك الفترة التي عاشها اليمن في حروب، وكانت بعد ذلك سنة الحياة هي التغيير، فقد دخل اليمن في نهاية الثمانينات في سلسلة أخرى من الانقلابات انتهت بحكم ثلث قرن، يعتبر من اسوأ فتراته في التاريخ الحديث، حيث تم إحياء سلطة القبيلة والعسكر وانتشر سلاح الثأر والأمية والقات وحالات البطالة وتدني دخل الفرد، وكل مساوئ أنظمة الربيع العربي اجتمعت في اليمن. وفي الجنوب شهدت بداية الستينيات ثورة ضد الاحتلال الانكليزي ودخل حكامه الجدد في تجربة نشاز عن المنطقة، فأبعد رأس المال ودخل في عُشق السياسة والماركسية القبلية والحزب الأوحد والحليف الدولي الأوحد، في ظل نظام الثنائية القطبية، ودخل الشطران في لعبة الأمم وكانت نهاية الثمانينات فرصة ذهبية لليمنيين لصنع الوحدة، ولكنها للأسف كانت على يد عناصر فاشلة في الشطرين وحدتهما الأنانية، حيث دخل الطرفان بنيات مبيتة لإقصاء الآخر. ولا ينطوي ذلك على ما يجري في بعض بلدان الربيع العربي كمصر وتونس وكذا تركيا، حيث يبدو للبعض أنه صراع بين العلمانيين والاسلاميين، وليس صراعا مذهبيا، كما يبدو للبعض الاخر ايضا، في كل من سورية والعراق، وفي هذا السياق يتصور أصحاب تلك الرؤية بأن هناك إجماعا دوليا على وأد تجربة التيارات الإسلامية بكافة اشكالها، فخروج الشارع والحشد الشعبي لا يمثل الديمقراطية ولا يمت لها بصلة! اختلفت بلدان الربيع العربي في اسباب ثوراتها وفي مألاتها، وبعد أكثر من عامين غدت كل هذه البلدان متشابهة في همومها الوطنية وغارقة في الفوضى وتائهة تبحث عن مخرج لمرحلة انتقالية عمقت جروح الأمة وهددت وحدتها. فعلا لكل بلد خصوصيته، فاليمن دخل في معمعة تداعيات العملية السياسية المستلهمة من بنود المبادرة الخليجية، التي يبدو انها ناقصة في مضامينها، فهي لم تدرس عواقب تنفيذ آلياتها، فأبطالها الذين وفرت لهم حصانة ليحلموا بها ويعتقدوا بأنهم بتأزيم الأوضاع سيحن الشعب لأيامهم السوداء، ووفق هذا الوهم لازالوا يلعبون في الوقت الضائع، مرة بالتلويح بالقوة وأخرى بوسائل تنظيمية عجزت عن تجديد نفسها وبقيت أسيرة لقيادات يفترض ان تكون من الماضي. وفي ذلك تناقض صارخ وهذه هي الألغام التي قد لا يدركها الجميع، حيث تفسر المبادرة بأمزجة متباينة وأنانية فظة تفتقر للضمير وحب الوطن أو التضحية، ولاسيما من لدن الحرس القديم الذي يشعر بسحب البساط منه يوما بعد يوم، غير مدرك أن التغيير هو قبل اختراع ‘المبادرة الخليجية' بل هو فطرة الإنسان وسنة الحياة.! ‘ دبلوماسي وكاتب يمني