يخسر دعاة الوسطية إذا قصروا دعوتهم وبرامجهم على تصويب أو نقد منظومة فقه العنف الذي سيطر على فعاليات عدد من جماعات الحركة الاسلامية خلال العقود الثلاثة الاخيرة، ويتيح هذا الأداء الاحادي في معالجة مشكلات التطرف والتشدد زيادة حجم الهواجس التي تسيطر على البعض من مقاصد ونوايا ومرجعية تيار الوسطية . ذلك أن استبداد الحكام في بلدان عربية مختلفة وقمعهم حركة الاصلاح والديمقراطية والشورى سبب أصيل من أهم أسباب الاحتقان وانسداد قنوات التفاهم وتمدد ظاهرة العنف. لا نسوق هذا في مقام التبرير وإنما في مقام الرصد الأمين لكل أبعاد الأزمة ودواعيها وطرق علاجها . فقضية الاصلاح وتدبيج خطاب اسلامي نهضوي قضية شغلت المفكرين منذ فجر النهضة من قرنين على الأقل، فالحاجة إلى صياغة خطاب إسلامي يتماشى مع العصر بات ضرورة ملحة خصوصا مع التحديات التي تواجهنا. نحن في حاجة إلى تنقية الاسلام مما علق به من اتهامات ومحاولات الربط العمدي بين الارهاب والعنف وبين الاسلام نتيجة ممارسات وسلوك مارسها بعض شبابنا فضلا عن ضعف الأمة العام وتحولها إلى أمة مستهلكة غير منتجة. هناك طرفان لا بد أن يعيا ضرورة وأهمية صوغ خطاب اسلامي نهضوي جديد هما الحكومات العربية والحركات الاسلامية، بما يؤدي لضرورة البحث عن صيغة مناسبة للتعايش الآمن الذي يوفر جوا تستطيع الأمة فيه أن تبدع وأن تتحول إلى أمة مؤمنة ومن ثم أمة منتجة، فالذين يطالبون الحركات الاسلامية بالكف عن استخدام قضية تطبيق الشريعة كورقة ضغط أثبتت التجارب عدم صحتها، عليهم أن يطالبوا الحكومات بتهيئة المناخ لتطبيقها عن طريق وسائل الاعلام والمناهج التعليمية الصحيحة ودعم القيم الاخلاقية. المؤكد أن استنزاف طاقاتنا بصراعات وصدامات لن يفيد إلا العدو المتربص بنا والذي لن يفرق بين الحكومات أو الحركات، وقد رأينا رأي العين كيف استلبت القوات الغازية زعماء ورؤساء من ياقة قمصانهم أو فانلاتهم الداخلية!! ينبغي ان نبحث عن مساحات اتفاق بين الحكومات والحركات ومن ثم كل مكونات مجتمعاتنا العربية والاسلامية التي تؤمن صياغة رشيدة متفقا عليها للخطاب الاسلامي والموقف الواحد على الاقل في المفاصل الاستراتيجية لأي أمة ساعية للإصلاح والبناء والنماء وقد توصل جمال الدين الأفغاني (1838-1897) بعد تقص لأسباب انحطاط المسلمين أن مرجع ذلك غياب العدل والشورى وعدم تقيد الحكومة بالدستور فرفع لواء المطالبة بأن يعاد للشعب حق ممارسة دوره السياسي والاجتماعي عبر المشاركة في الحكم من خلال الشورى والانتخابات. وفي الفترة نفسها تقريباً ، تألق نجم عبد الرحمن الكواكبي (1849-1903) الذي ألف كتابين حول هذه القضايا هما " طبائع الاستبداد " و " أم القرى". أما محمد رشيد رضا (1856-1935) فرأى أن سبب تخلف الأمة يكمن في أن المسلمين فقدوا حقيقة دينهم ، وأن ذلك مما شجعه الحكام الفاسدون ، لأن الإسلام الحقيقي يقوم على الإقرار بوحدانية الله ، والشورى في شؤون الدولة . واعتبر أن الحكام المستبدين حاولوا حمل المسلمين على نسيان الأمر الثاني بتشجيعهم على التخلي عن الأمر الأول . ولكن الأمر اختلف بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية عام 1924 وأصبح مصدر الخطر مخطط التغريب الذي بذل فيه المستعمرون جل جهدهم ، والذي ما اقتصر على سلب الخيرات وشل الإرادات بل بات يهدد هوية الأمة المستمدة من عقيدتها ولغتها . وبذلك تبدلت الأولويات وأصبح رأس الأمر الكفاح لتحرير ديار العروبة والإسلام وحماية الثقافة من الطمس والتبديل ، وتحولت دعوة الإصلاح السياسي إلى دعوة للتجديد. نحن في حاجة إلى التحرر من مخاطر العنصرية الحركية ومن ثمّ إلى الانفتاح والتحرك في رحاب أوسع تحت سقف المرجعية الاسلامية نشتبك فكريا مع النخب الثقافية والفكرية مختلفة المشارب والرؤى مع الاسلاميين المستقلين والحركيين ومع القوميين الذين يرتكزون على ثوابت الأمة وتراثها الدينى. يلزم أن نتفق على عدم احتكار حق الحديث باسم الاسلام، نفرق بين الأصول التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة وبين أفهامنا، فالاسلام ثابت وأفهامنا متغيرة. لا شك أن اهتمام الحركات الاسلامية بالشأن السياسي العام ذي الصلة بأمور الحكم أبعدها عن كثير من التعاليم التي تميزها وتجعلها أكثر قبولا في المجتمعات، وهنا أذكر مقولة خالدة للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقائد جيشه يوصيه " انكم إذا استويتم مع عدوكم بالذنوب والمعاصي تفوق عليكم بالعدة والعتاد"، انشغلنا بأمور الحكم والسياسة ونسينا الاهتمام بأمور أخرى هي من صميم المكونات الاستراتيجية للشخصية المسلمة، فغاب كثيرون منا معشر الاصلاحيين والدعاة عن أداء صلاة الفجر في جماعة!! وغاب كثيرون منا نحن الطليعة التي تحمل لواء الاصلاح عن لزوم المساجد في الصلوات الخمس المفروضات!!فالاهتمام بالأخلاق أمر في غاية الاستراتيجية مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "، بعضنا يفهم التدين بصورة خاطئة متصورا أن "تكشيرته" في وجه الناس تكون سببا لاحترامه وتوقيره رغم أن التعاليم النبوية قاطعة " تبسمك في وجه أخيك صدقة" وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. إننا في حاجة ملحة ونحن في صدد صوغ خطاب إسلامي نهضوي جديد أن نعمل على إعادة الاعتبار للإسلام في بلاد المسلمين وهي مهمة تحتاج إلى جهاد فكر وكلمة أصعب بكثير من الجهاد بالمعنى العسكري الذي يحصر بعض المتشددين فهمه وعمله في حدوده، فلن يكون للإسلام نصيب حقيقي من المهابة والاحترام في الخارج مالم تتمكن الفصائل التي ترفع لواء الوسطية من ترسيخ مبدأ احترام الاسلام وإعادة الاعتبار لدوره في الحياة العامة وشرائعه في الداخل. مطلوب أن نعيد تأسيس مفهوم النهضة على أساس يقيم وزنا أكبر لقضية الابداع كميدان للجهاد لنصرة الاسلام بحيث تتحول الطاقات الفاعلة في الأمة من التفكير في مواجهة الآخر إلى توسيع أفق نظرته صوب إبداع فكر وثقافة وعلم وتقنية وفن تدفع الآخر دفعا لأن ينظر للإسلام نظرة أكثر توقيرا إذ تنعكس عظمته في إنجازات أبنائه، فالخروج من شرنقة التخلف في الداخل يسبق الطموح لمنازلة الاعداء في الخارج وهنا تصبح الأمة كلها قادرة على المشاركة في صنع النهضة والقيام بفريضة الجهاد كل حسب طاقته وفي المجال الذي يستطيع أن يبدع فيه. والله أعلم