حتى لا يبدو وكأننا مكترثين فقط لما يقدر صالح على فعله، علينا أن نوضح أن أشد القذارات التي أعدها ويعدها في سبيل انتقاماته ومحاولة استعادة السلطة، لن تساوي شيئا أمام تحرك شعبي واعي ومنظم. كل الخطط المعقدة والإعدادات العسكرية الضخمة وحتى اللعب على التناقضات داخل المجتمع، كل هذه الأشياء الناجمة عن خبرة الجريمة المنظمة، هي وجدت أصلا وتراكمت في محاولة لمواكبة تطور وعي الشعب اليمني، ليظهر أحيانا أنها تتفوق على هذا الوعي، وقادرة على إخضاع اليمنيين مجددا وإمعان مزيد من الإذلال والقهر بحقهم. إلا أن الوعي الشعبي ينكمش لبعض الوقت، ليتجدد على شكل قفزة هائلة وهو ما شاهدناه مثلا خلال ثورة فبراير. إذن قبل الحديث عن المستوى الثاني من الطبخة التي أعدها صالح لتعز، سيكون من الجيد التوقف عند مسألة كيف تشكلت بؤر المقاومة العصية في هذه المحافظة، وأيضا تلمس طريق الانتصار لاستكمال مسيرة الثورة. وهذا حتى يصبح للكلام معنى، فالانتصار على الثورة المضادة وما جلبته من عفونة وتشوهات إلى السطح يبدو مسألة حتمية ومترابطة، ويبدو عادلا القول بأنه لا مستقبل لليمنيين بدون ذلك الانتصار. بؤر المقاومة ثمة أربع بؤر مشتعلة للمقاومة في تعز، حيوية ورغم كل شيء لا تزال الحاضنة الشعبية فيها متماسكة، وتقدم كل ما يحتاجه المقاتل في معركة شريفة. البؤرة الأولى: في مدينة تعز، تشكلت بعد مظاهرات شعبية استمرت منذ دخول الحوثيين صنعاء، وعلى نحو مكثف، خلال الأيام التي سبقت وصولهم مع قوات صالح إلى جولة القصر. حينها سقط عدد من الشهداء المشاركين في التظاهر السلمي، لكن بعد أن أصبحت الأرضية معبدة أمام توقف هذا الشكل من الاحتجاج والبدء بالعمل المسلح. البؤرة الثانية: في مدينة التربة، وقد تشكلت أيضا بعد مظاهرات شعبية ترفض مرور المليشيات نحو عدن ومناطق الجنوب. وحدث التحول من الاحتجاج السلمي إلى العمل المسلح بعد سقوط عدد من الشهداء على يد تلك القوات. بمعنى آخر لو أننا في مجتمع فيه عدد قليل ممن يمكنهم حمل السلاح، فهم لن يفعلوا ذلك في مواجهة قوات كبيرة لديها عتاد عسكري ضخم ونية مبيتة للقتل، لن يفعلوا حتى وان عرفوا بالتهور وبأنهم من أشجع المقاتلين. لكن عندما يبدأ الأمر بمثل ذلك الزخم الشعبي، يصبح القتال مجرد ترجمة حرفية للثورة المعتملة في صدور الناس، ومهما بلغ حجمه فهو يستطيع صناعة الفارق بالاستناد لتلك القاعدة الشعبية. البؤرة الثالثة: في منطقة مشرعة وحدنان بجبل صبر، والتي لا تتوقف عن تذكيرنا بمقاومة الضالع، وكيف أنه من السهل تحقيق النصر إذا ما قرر الناس التخلص من وهم الاعتماد على شيء اسمه التحالف أو آخر أسمه الشرعية. طبعا تشكلت مقاومة مشرعة وحدنان بعد خروج مظاهرة شعبية ترفض وجود المليشيات ووجود دبابة تقصف سكان مدينة تعز من جوار منازلهم. (عندما يريد الناس التعبير عن قضية كبيرة ولديهم الاستعداد الهائل للتضحية، فهم حتما سيبدءون برفض تلك الأفعال المشينة والملموسة للجميع). أحد الأبطال ويدعى جمال نهض إلى سطح الدبابة التي تحوي 82 طلقة، ثم رش عليها البنزين الذي لا يعرف أحدا كيف جلبه، وقام بإحراق تلك الكتلة الصلبة، ثم آخذ الناس يعدون انفجار الطلقات بفرح، لقد أحترق الخوف والجريمة في وقت واحد. قتل جمال في تلك الحادثة لكنه فعلا كان قد نجح في إشعال جحيم القتلة. خلال شهر وثلاثة أيام تحررت مشرعة وحدنان، سقط قرابة المائة شهيد من معسكر المقاومة، ومن المعسكر الآخر سقط المئات ووقع العشرات منهم في الآسر. بالطبع لم يكن أهالي مشرعة وحدنان من أولئك الذين يستهويهم اقتناء السلاح أو حمله. في تلك المنطقة الجبلية شديدة الازدحام، توجد أكبر نسبة خريجي جامعة في محافظة تعز، وفيها أعلى نسبة ميل للتمدن. لا يكاد يمر عام دون أن تسجل مشرعة وحدنان اسمها ضمن أوائل الثانوية العامة، لكن عندما استدعت الحاجة حمل السلاح، ذهبوا لبيع ذهب النساء وعادوا بالذخيرة. من ضمن أسماء كثيرة، أصبح يطلق على معركة مشرعة وحدنان اسم: معركة الجرامل. وهذا لكثرة استخدام الجرامل في مواجهة قوات الحوثي وصالح وهو سلاح أستخدم لأخر مرة تقريبا في الحرب العالمية الثانية. البؤرة الرابعة: في مديرية المعافر، حيث اصبح مركزها (مدينة النشمة) بمثابة مقر مفتوح وبديل للواء 35 مدرع، وهو اللواء الذي كان أول من بادر في التصدي للمليشيات وقوات الخيانة عند محاولة اجتياحها لتعز. خسر اللواء كثير من جنوده وضباطه وخسر مقره في المطار القديم غرب المدينة، لكنه كان قد نجح في إنقاذ شرف العسكرية اليمنية. لكن المعافر لم تكن لتصبح حاضنة للجيش والمقاومة بهذا الشكل، لو لم يكن مهرجان جماهيري كبير قد أقيم هناك، وعكس الإرادة الشعبية للناس ومدى استعدادهم للتضحية. ولتأكيد مثل هذه النقطة، فقد تشكل في المعافر أيضا أول مجلس إسناد للمقاومة. هكذا أصبحت النشمة معسكر استقبال مفتوح ومركز هام لإدارة المعركة وتعزيز جبهات كثيرة بالمقاتلين والسلاح. أما الاستنتاج على خلفية الحديث عن هذه البؤر فهو انه إذا كان الفعل الشعبي وتحرك الجماهير مقدمة أساسية لتشكل مقاومة صلبة، فإن صمود هذه المقاومة وانتصارها مرهون ببقاء هذا الدور الشعبي واتساعه. المستوى الثاني من الطبخة في المستوى الثاني من طبخة صالح في تعز، تلك المتعلقة باعتقادنا المشار إليه في مطلع الحلقة الأولى من هذا المقال، أي أن وجود الجماعات المتطرفة سوف يقتصر فقط على المدينة بينما سيظل الريف بمنأى. لكن التطورات الأخيرة أصبحت تتحدث عن ظهور الجماعات المتطرفة في التربة، وأنها أصبحت منذ ثلاثة أسابيع تعسكر في منطقة الخيامي التابعة لمديرية المعافر، وهناك مركز لها في قدس، ومعسكرات استقبال للمجندين الجدد في أكثر من منطقة. ويبدو تواجد هامشي حتى الآن، لكنه لن يصبح كذلك إذا دققنا حول الهدف الذي يقف خلف ذلك، أو حينما نشهد تطورات الأحداث ربما خلال الأيام القادمة. والآن أنظروا للخبر الذي سيتفاعل معه كل الأغبياء: لواء الصعاليك في طريقه لتحرير حيفان! تبدو حيفان هذه منطقة خالية من السكان، أو أن سكانها لا مصلحة لهم في الصراع ولا يهتمون لكرامتهم على الأقل. نحن ننسى أن حيفان معقل الحركة الوطنية، وننسى أن أهلها كمعظم سكان الحجرية ليس لديهم أسلحة تكفي حتى تدفعهم إلى خوض المعركة، وننسى ويا لغبائنا أن حيفان سقطت لأنه تم تحييد معظم سكانها بعد أن شاهدوا ولمسوا عن قرب تصرفات مقاتلين حسبوا على المقاومة قدموا من خارج المديرية. وإليكم هذه المعلومة: أكثر مديرية سقط منها شهداء خلال ثورة فبراير، كانت مديرية حيفان. أبناء حيفان كان ينقصهم السلاح وبعض الدعم اللوجستي، وأيضا معرفتهم المسبقة أنهم يقاتلون ضمن معركة كبيرة هدفها استعادة الدولة، لهذا كثيرا ما سمعناهم يناشدون اللواء 25. يعرف صالح أن فشل تحرير تعز حتى الآن سببه خفوت الدور الشعبي، لصالح تعاظم نفوذ الجماعات المتطرفة، التي يفهم نظامها ويتابع حركتها عن قرب، وهذه الجماعات في الغالب تعلن أنها تقاتل الحوثيين ولا تقاتل قوات صالح. بل أن وجود الحوثيين في مقدمة المشهد كان الهدف منه توفير شروط تنامي هذه الجماعات. إذن كان انتشار هذه الجماعات في ريف الحجرية استعدادا للحظة التي ستفرض فيها المواجهة، وحتى يكون هناك طرف غير شعبي لديه الاستعداد لذلك. ولأن هناك من لا يريد أن يفهم نقطة حساسة كهذه، فقد تم استقدام مقاتلين من خارج المناطق التي تشهد حربا، وبقى الأهالي خارج الصراع. عمل كهذا لابد أن يفتح الباب على مصراعيه للجماعات المتطرفة، فهي القادرة على الصمود لأطول فترة ممكنة بسبب أنها لا تنتظر الدعم من هادي أو التحالف ولا تعبأ بتكتيكات الإصلاح. وهكذا يصبح تسيد هذه الجماعات جزء من هدف معركة صالح وإحدى طرقه الشهيرة في العقاب. قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة @aleshterakiNet