طالعتنا صحيفة الثوري في عددها قبل الأخير في صفحتها الأخيرة بشهادة لمؤسسة ثقافية، بأنها ملأت الفراغ الثقافي الذي تركته السلطة، وأن إدارة هذه المؤسسة من أكفأ الإدارات. وسأحاول أن أذكر الإخوة في صحيفة الثوري الذين اشتق اسم صحيفتهم من الثورة، أننا أمام كيفية جديدة لوعي المجال الثقافي وأمام أسلوب جديد لممارسة الثقافة وللسعي إلى المعرفة، ومن نافل القول أن ممارسة الثقافة لم تعد ممارسة ايديولوجية، وبالتالي فإن الشهادة ليساري قديم توقفت ايديولوجيته عند مشارف الستينيات، لا يؤسس لثقافة وإنما يؤسس لتشويهها. إنني أريد أن ألفت انتباه الإخوة في الثوري، أو بمعنى أصح أن أحذر من وهم المعجزة ومنطقها التي يتحدثون عنها، فليس ما يقتل الثقافة كالغلو في الثقافة نفسها، وبقدر ما تتحول الثقافة إلى مذهب من المذاهب وإلى معادلة جبرية يكون أحد أطرافها واحد من الشلة، فإنها تكون ميتة لا محالة، نحن لا نريد أن تكون الثقافة مطلباً ايديولوجياً مثلها مثل فكرة الاشتراكية والقومية والنهضة وغيرها من الافكار المطلقة. إن الفراغ الثقافي الذي تحدثت عنه الثوري والذي نسبته إلى السلطة يجانب الحقيقة، فالسلطة ذات يوم فتحت دور السينما والمسارح ومكاتب للثقافة في كثير من المحافظات، لكننا نحن الذين هجرناها وانزوينا في غرف شبه مظلمة نستجر القات ونستنشق دخان السجائر، ظانين أننا نمارس وعينا السياسي.. وكنت أتوقع من المثقفين القائمين على هذه الصحيفة وما زلت آمل أن يغايروا ما استقر في رؤوسنا من تاريخ الحركة الوطنية التي لا تختلف كثيراً عن الصناعات الوطنية، فكلها مستوردة من الخارج وليس لنا إلا التعبئة، مثلما نستورد مكونات الصناعة من الخارج فاننا قد استوردنا الفكر الاشتراكي والناصري والبعثي والإسلامي من الخارج وكل ما كانت تطمح إليه ما تسمى بالحركة الوطنية هو أن تكون في اليمن سيارات وشوارع، وتوقفت ثقافتنا عند هذا الوعي لتصبح كل إنجازاتنا تصب في هذا الإطار. إننا نطمح من كل المثقفين أن يتحرروا من ثقافة الماضي، بل يعملوا قطيعة مع هذا الماضي بعيداً عن ثقافة المعجزة والنقلة الفجائية، بلا مجهود ولا كلفة، ولا أريد أن أذكر بأننا بحاجة إلى وعي معرفي يخاصم ما هو ايديولوجي، لأن الذي يميز الوعي المعرفي عن الايديولوجي هو إخضاع الوعي المعرفي في مسلماته إلى النظر النقدي. إذا كنا متشائمين حيال الواقع، فإن لتشاؤمنا ما يبرره، فالمثقف أصبح يشكل حاجزاً غير مرئي على الثقافة والمثقفين، ولنضرب مثالاً على ذلك المؤسسة التي امتدحتها صحيفة «الثوري» حيث تتعامل مع النصوص الأدبية المقدمة إليها من منظور أخلاقي وديني. ولست أدري هل بإمكاننا تسميتها بالمؤسسة إذا كان يديرها شخص واحد، هو المسئول عن المؤسسة وجائزتها وهو المسئول عن الأبحاث في الوقت الذي لا يفقه في منهجة البحث العلمي في شيء، مع أن المؤسسة تعني أن هناك أكثر من إدارة وأكثر من تخصص، فهناك إدارة للمؤسسة وإدارة للمشاريع البحثية وإدارة للشئون الثقافية والمؤتمرات وإدارة للجائزة وإدارة للتأليف والترجمة وغير ذلك.. وربما نجد مثل ذلك في مؤسسة العفيف الثقافية فهي تمد يد العون للقائمين على التنمية الفكرية والمساعدة والدعم للباحثين وتخصص المنح الدراسية والتدريبية لغير القادرين. نحن بحاجة إلى ثقافة نقدية تشرح الواقع وتكشف العثرات التي تقف أمام المستقبل وخاصة تلك الأطروحات التي تجيء محملة بالأفكار النظرية ومفصولة عن الواقع العملي.. وعلي أن أشير هنا إلى ذلك التواطؤ القائم من قبل مثقفي اليسار مع حزبهم الذي أقام حلفاً تكتيكياً مع قوى موجودة في الساحة ما زالت تعتبر المرأة بنصف عقل ودين وميراث، كما أنها تخلط بين فكرة الديمقراطية والشورى.. وهذه قضايا جوهرية على المثقف أن يحسمها. هذه دعوة لكل المثقفين الجادين لأن يمارسوا نقداً يمس آليات الفهم وإشكالات التصور بعيداً عن الثنائية المقيتة سلطة ومعارضة، لأن هذه الثنائية تحرف النقد عن أداء وظيفة الحقيقة وتجعله يصب في خانة التمجيد، هذه الثنائية تجعل رؤيتنا مفروضة على الواقع الثقافي وليست نابعة منه، وهذا ما جعل المثقف اليمني يميل إلى اعتناق رؤية الحزب الذي ينتمي إليه، مما يجعله يتعامل مع الواقع بانتقائية تجعل المثقف يعيش مستقلاً عن المجتمع، وبالتالي لا يستطيع التأثير فيه. إننا نطمح إلى أن يبلور المثقف اليمني مشروعاً له صلة بالمجتمع، وهذا لن يتأتى إلا إذا تخلص المثقف من الماضي وأحدث قطيعة معه وفصل بين الديمقراطية والدين وناضل من أجل ذلك بعيداً عن البرامج الحزبية العتيقة التي توظف قضايا الوطن وفق مصالح رؤى وأفكار معينة بعيدة عن قوانين حركة الواقع. إن المثقف في الغرب كان سبباً في رفع شعبه من قاع بئر التخلف والفقر والمرض، لكنه في بلادنا على العكس من ذلك ينتقل من حزب إلى آخر ومن مقيل إلى آخر لرفع رصيده في البنك وفي الدرجة الوظيفية، لتزداد نسبة الأمية وتتسع قاعدة الفقر والمرض.