في دراسة متميزة نشرت له قبل عدة سنوات في مجلة (فكر ونقد) بعنوان (الفلسفة السياسية ومسألة العنف) يشير رشيد العلمي الإدريسي إلى: أن السياسة اقترنت عند بعض المفكرين بالسيطرة والغلبة والعنف، وهذه النظرة السلبية للسياسة ناتجة عن وجود «الأحكام المسبقة» لدى البعض من أولئك المفكرين، وارتبطت بالوضع المأزوم الذي كانت تعيشه العديد من المجتمعات الإنسانية في العصور الماضية، وهي الوضعية التي عكست نفسها على فكر العديد من المفكرين باعتبار الفكر يتأثر بالواقع وهو ابن بيئته، أو لا نزال نعيشه في عصرنا الحاضر.. بيد أن هذا الوضع ليس قدراً محتوماً على الإنسانية، كما أنه لا يمكننا على أساسه استخلاص ماهية السياسة، بما هي لغة الحوار والتواصل، والتداول أو التبادل السلمي للسلطة، والحلول الوسطى المتنامية والمتزايدة، وبما هي النقيض الفعلي للعنف بكافة صوره وأشكاله، أليست الحرب كما يقول البعض امتداداً للسياسة ولكن بوسائل أخرى «عنيفة»..؟ بل يذهب البعض إلى: «إن العنف لا يمثل إلا مسلكاً من المسالك «المتعددة والمختلفة» التي تلجأ إليها السلطة، وهي لما تقوم بذلك تحاول تبريره «أو شرعنته». أما الأفعال السياسية الحقة أو التي يصح أن نطلق عليها أنها أفعال سياسية بحق فهي لا تحتاج إلى تبرير، إذ العنف وحده هو الذي يوجب التبرير في أغلب الأحيان، ويظهر العنف لما تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته ليصبح سلوكاً يومياً وممارسة مقبولة من قبل السلطة سينتهي الأمر باختفاء السلطة".. وتقول المفكرة والباحثة حنا أراندت :(Hannah Arendt) لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الذي هو السلطة، وأنه يتعين علينا ` لكي نفهم العنف على حقيقته أن نتفحص جذوره وطبيعته.. والواقع أن السياسة لا يمكن أن تتعايش مع العنف إذ هي «النقيض الفعلي له». الملاحظ اليوم أن البحث في مسألة العنف في مجتمعاتنا العربية بوجهٍ عام، وفي مجتمعنا اليمني بوجهٍ أخص، لم يعد يحظى بنفس الاهتمام الذي حظي به في الماضي، وخاصة منه العنف السياسي سواءً في إطار علاقته المباشرة بالسلطة باعتبار هذه الأخيرة برأي البعض تظل محتكرة للاستخدام «الشرعي» للقوة.. أم في علاقته بالخطاب السياسي والإعلامي بما هو وسيلة التواصل وأداتها الأكثر تأثيراً في مجتمعنا اليمني الذي تغلب عليه الأمية، وكافة أجهزة «العنف الأيديولوجي»، وهو العنف الذي يمارس بوسائل متعددة من مختلف الأطراف الرسمية، وغير الرسمية، والمعبر عنه بكل أشكال التعبير اللفظي: الإذاعة والتلفزيون، أو المقروء: الكتابات الصحفية والمؤتمرات والندوات والتصريحات... في ظل استسهال البعض لإطلاق الأحكام الجاهزة والمعدة سلفاً، وفي ظل وضعيةٍ من عدم الرضا مطلقاً بما تحقق لمجتمعاتنا العربية عموماً واليمني بوجهٍ خاص من هامشٍ ديمقراطي أتاح للعديد من باحثينا وكتابنا متنفساً للتعبير بحرية عن آرائهم، ومجالاً لانتقاد التصرفات التي تقوم بها السلطة السياسية في مجتمعاتنا، كما أتاح للعديد منهم فرصة للحديث في مجالات ظلت تعتبر من «التابوهات أو المحرمات سياسياً وليس دينياً».. بل لقد لجأ البعض من أولئك إلى التطاول في بعض الأحيان على كل مكونات النظام وكيل التهم جزافاً إلى كافة أبناء المجتمع اليمني واصفين إياههم «بالغباء والتخلف والارتشاء..» لمجرد أنهم عبروا ودون العودة إليهم لاستشارتهم أو أخذ موافقتهم وإذنهم المسبق عن قناعتهم بالتمسك بفخامة الأخ الرئيس ورغبتهم في ترشحه مجدداً لرئاسة الجمهورية اليمنية. ولم يستسغ البعض في مجتمعنا أن يعدل رئيس الجمهورية عن قراره بعدم الترشح لولاية رئاسية ثانية، وقد كانوا يمنون النفس بالترشح في حال تمسكه برأيه، ليمارسوا حكم هذا الشعب «الغبي، والمتخلف،..» وتناسى هؤلاء أنهم بدورهم يمارسون نوعاً من العنف الذي شكوا منه في الماضي، ولا يزالون يشكون منه اليوم. وعنف خطابهم السياسي والإعلامي وتصريحاتهم لوسائل الإعلام المختلفة مهما كانت مبرراته ومسوغاته قد مس كل مكونات المجتمع اليمني من أعلى هرم السلطة إلى أقل أبناء اليمن شأناً، كما أنهم بفعلهم ذاك قد أعلنوا رفضهم الاحتكام إلى الديمقراطية الشعبية التي يتباكون عليها ليل نهار.. وإذا كان هذا حالهم الآن، وقبل أن يكون لهم دور في السلطة السياسية، فكيف سيكون الحال إن تمكنوا من استلام قياد هذا الشعب، هل سيعلنون نهاية العهد بالديمقراطية؟!، كما تناسى أولئك أنهم مسئولون وبنفس القدر وبصورة مباشرة عن هذه الأوضاع التي يعيشها الشعب اليمني.. وكما يقال «بدلاً من أن تلعن الظلام أشعل شمعة»، فبدلاً من لعن «جهل وغباء الشعب اليمني» ماذا فعلتم لتوعيته وتثقيفه سياسياً وعلمياً؟! فالأولى بهؤلاء أن يقروا ويعترفوا بواقع ما وصلت إليه حريات التعبير والاختلاف وتنامي دور الحلول الوسطي والحوار في مجتمعنا اليمني، وأكثرهم يمتهنون الكتابة الصحفية وأقلامهم معروفة ومحل تقدير من السلطة قبل المجتمع.. ولم يحدث أن منعوا من التعبير عن آرائهم بحرية، وبأن التجربة الديمقراطية اليمنية هي بحالٍ أفضل مما كانت عليه قبل سنواتٍ عديدة وإن لم تكن في المستوى الذي يرضيهم أو يرضي طموحاتهم، وعليهم الانطلاق من تقييم التجربة نفسها بسلبياتها وإيجابياتها في علاقتها بالواقع وبالبيئة الاجتماعية اليمنية، وبطبيعة التركيبة المجتمعية التي يغلب على أكثر مكوناتها حضور «الثقافة السياسية التقليدية، أي ثقافة الرعية والخضوع في ذهن الجماهير، ولم تصل بعد إلى مستوى ثقافة المشاركة السياسية الفاعلة والواعية»، واستحضار كل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وعدم القفز على الواقع كله دفعة واحدة والحديث عن «المأمول والمفترض» وتناسي كل تلك الأمور دفعة واحدة في سباقٍ محموم على السلطة. فالتجارب الديمقراطية العالمية التي يتغنى بها العديد من مفكرينا وكتابنا لم تصل إلى ما وصلت إليه بمجرد الرغبات والأماني، بل وقفت دونها موانع وعوائق كثيرة، لكنها تحققت بفعل كفاح تلك الشعوب وإرادتها وصبرها على كل صور المعاناة والاستبداد السياسي حتى وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه.. والأهم من هذا أن يعرفوا أن العديد من المفكرين الغربيين قد انتقدوا تجاربهم الديمقراطية بالرغم مما نعتقده نحن باعتبار أن العديد منها قد تجاوز المبادئ التي قامت عليها وأفرز في الممارسة العديد من الأزمات السياسية وأهمها «أزمة الثقة» التي أدت إلى إحجام المواطن الغربي عن الإدلاء بصوته في الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي أصبحت كأنها شأن لا يعنيه وعليكم بمراجعة الأرقام والمؤشرات التي سجلتها العديد من التجارب الانتخابية في المجتمعات الغربية.. حيث لم تتجاوز نسبة المشاركين في أكثرها حاجز ال50 % من عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات. ومع هذه الملاحظات التي سجلناها على الديمقراطية والتي قد تجعل البعض منا يفضل غيرها عليها «..فالأسوأ من غياب الديمقراطية كما يقول فخامة الأخ علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية حفظه الله هو غياب الديمقراطية..». في الختام نتفق مع رشيد العلمي حين قال: «إن حنا أراندت، وعند تحليلها للنظم الكليانية أو الشمولية قد أشارت إلى: «أن العنف يتعارض جوهرياً مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماماً، إذ العنف يرتبط بأفعالٍ غير سياسيةٍ في عمقها مثل: التحايل، الضبط أو التطويع الاجتماعي، التخدير الأيديولوجي».. ويضيف: إنها «تذهب في كتابها في العنف إلى القول: إن السلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يكون الآخر غائباً». حقاً لقد عرفت الإنسانية أوضاعا سليمة نسبياً في عصور قديمة وفي عصر الثورات العالمية، وحينذاك برزت السياسة في معناها الحقيقي (أي السياسة بمعنى التحاور والتواصل والتداول).. فهل يؤمن هؤلاء بهذه المبادئ والقيم في ممارستهم السياسية حقاً في مجتمعنا اليمني، وهل يؤمنون بأن السياسة في بلدنا تقوم على مبادئ الحوار والتواصل مع الآخر، وآخر شاهد عليها هو تجربة الحوار بين الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة السياسية اليمنية والتي أفرزت «ميثاقاً للمبادئ» وتوافقاً حول أولويات المرحلة القادمة، وتنبذ العنف فكراً وسلوكاً أو ممارسة.. أم أن على قلوبٍ أقفالها..؟ - جامعة إب