يعتقد العديد من الباحثين أن وجود الأحزاب السياسية Political Parties، مع غيرها من مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني Civil Society، تعد من أبرز المؤشرات التي تعبر عن التوجه الديمقراطية للنظام السياسي الحديث، باعتبارها من أبرز الصيغ السياسية للتعبير عن مختلف الاتجاهات المتواجدة داخل المجتمع، وانعكاساَ طبيعياًََ للتعددية الاجتماعية، والثقافية، التي يزخر بها أي مجتمع من المجتمعات، وعلى العكس من ذلك يعد حظر الحزبية والتعددية بمثابة إنكار لتلك الحقيقة، وقفز على الواقع وهو الأمر الذي قد يُدْخِلِ المجتمع في دوامةٍ من العنف Violence وبين السماح بوجو التعددية السياسية والحزبية، والسماح بكل مايترتب عن قيامها من مظاهر الاعتراف بحقها في التعبير، وإبداء الرأي، والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي، وكذا الاعتراف بحقها في تشكيل الحكومات في حالة فوزها في الانتخابات، وبين التضييق على وجودها وحقها في كل ماذكرناه أعلاه، تكمن إشكالية النظام السياسي اليمني ومعه العديد من النظم السياسية في المجتمع العربي، في ظل غياب تفاهم حقيقي حول القضايا والموضوعات المشتركة، والتي تشكل القاسم المشترك المتفق عليه بين النظام وبين الأحزاب السياسية، أو على الأقل وجود أرضية مشتركة للحوار حولها، لقد سبقت الإشارة في مقال سابق إلى أن العنف «يحتل الطرف المقابل للإقناع الحوار» وأنه يجد في غياب الحوار بيئة مناسبة لينمو ويتكاثر..وقد يشكل أرضية خصبة لتدخل بعض الأطراف الدولية ، وعليه يصح أن نقول اليوم:« إن الحوار هو البديل المناسب لتقليص وجود العنف في مجتمعاتنا العربية، وفي مجتمعنا اليمني، وقطع الطريق على أي تدخل أجنبي في شؤوننا الداخلية» والسؤال هو : كيف يمكن أن ندشن هذا الحوار؟ وهل جميع الأطراف السياسية في مجتمعنا على أهبة الاستعداد للدخول في هذا الحوار، وماهي أخلاقيات الحوار؟ بداية دعونا نحدد المقصود بالعنف، وإن كنا نعترف بأن تحديد معنى واحد أو أكثر للعنف هو أمر استعصى على العديد من الباحثين بسبب وجود أكثر من مظهر للعنف وأكثر من صورة بل لانعدو الحقيقة إن قلنا:« إن العنف قد يرتبط بكل جانب من جوانب حياتنا، وقد نمارس واحداً أو أكثر من مظاهر العنف حتى دون أن نعي أننا نقوم به، وان العنف يدخل حتى في أكثر علاقاتنا الاجتماعية والشخصية خصوصية، مثلما هو الأمر مع أكثر مظاهر الحب شدة، أو ليس من الحب ماقتل؟» لكن هذا لن يثنينا عن محاولة تحديد المقصود بالعنف بأنه:« الاستخدام غير المشروع للقوة من لدن الأطراف السياسية المتصارعة في مجتمع من المجتمعات» وهذا التعريف لاينصرف إلى القوة التي تستخدمها السلطة في الدولة في إطار ممارستها للحكم، باعتبار أن السلطة تظل هي القوة الوحيدة التي تحتكر لنفسها استخدام القوة المشروعة، وفقاً لماكس فيبر «Max Weber» والعنف ينقسم إلى عدة أنواع أهمها: أ من حيث الجهة التي تمارسه: ينقسم العنف إلى: 1 العنف الرسمي: وهو العنف الذي تمارسه السلطة في الإطار الرسمي المشروع، أي الإطار الذي يحدده الدستور والقانون. 2 العنف الشعبي أو العنف المضاد: أي الذي تمارسه الأطراف المعارضة في علاقتها مع السلطة، وهو يمارس في الغالب خارج إطار القوانين المعمول بها في البلد. ب من حيث صور العنف: يتخذ العنف عدة صور منها: 1 صورة العنف المادي Material Violence، وهو أوضح أنواع العنف وأكثرها ممارسة، وقد يمارس عن طريق أدوات العنف كالبوليس والجيش ومؤسسات العقاب المختلفة، أو عن طريق «الثورات الشعبية» أو الانقلابات أو التفجيرات أو الاختطافات. 2 صورة العنف الرمزي Symbolic Violence التي تركز على مؤسسات التربية والخطاب السياسي بمافي ذلك المؤسسات الإعلامية أو ماأطلق عليها المفكر الإيطالي «غرامشي» العنف الأيديولوجي، وهذا النوع الأخير يمكن أن تمارسه جميع الأطراف المتواجدة في المجتمع رسمية كانت أم غير رسمية، كما أن هناك العديد من صور العنف الأخرى التي قد يمارسها الأفراد فيما بينهم مثل: العنف الفردي، والعنف الجماعي، والعنف الطائفي أو الفئوي..والعنف أياً كان مصدره أو طبيعته أو الجهة التي تمارسه يخلق مناخاً من عدم الاستقرار السياسي Political Irristability، يشل معظم طاقات المجتمع وقدراته، ويعرقل مسيرته نحو تحقيق كل أهدافه في التنمية، والإصلاح على مختلف الأصعدة والمستويات. إن الإقرار بتلك الحقيقة يدفعنا إلى البحث عن سبل أو سبيل لتجنيب مجتمعنا اليمني الوقوع في حالة من عدم الاستقرار السياسي تخسر فيه كل مكونات المجتمع اليمني أكثر مماتكسب، وربما تكون نعمة الاستقرار السياسي التي ينعم بها مجتمعنا أكثرها تعرضاً للخطر، في حال لاقدر الله أرادت جميع الأطراف السياسية أن تصل في تحقيق المكاسب السياسية الآنية إلى حدها الأقصى، وفي حال غلبت المصالح الذاتية الأنانية على غيرها من المصالح ذات الأولوية. وربما يكون الجلوس للحوار أحد السبل الممكنة التي تمكن الأطراف السياسية المختلفة من الاعتراف بحقيقة أن المجتمع اليمني يتسع للجميع، وليس حكراً على أحد دون غيره.. من الطبيعي القول: إن «الاختلاف» في وجهات النظر، وعلى مختلف المستويات الفكرية في المجتمع الواحد هي مسألة طبيعية، فليس من الضروري أن تتفق جميع مكونات المجتمع على برنامج واحد، أو وجهة نظر موحدة ، والمجتمع الذي يعرف مثل هذا الاتفاق يعتبر مجتمعاً جامداً، والاختلاف قد يكون مصدراً للخير وللثراء والتنوع داخل المجتمع إن كان القصد منه إظهار سلبيات التجربة السياسية ومثالبها بقصد الإصلاح لكل مااعتور تلك التجربة من نقائص دون تصيد الأخطاء أو انتظار حصد المكاسب السياسية الشعبية في الانتخابات، و هو شر محض إن أدى إلى الفرقة، وتمزيق الصف، وخلخلة الأوضاع في البلد، وزيادة البون والاحتقان السياسي بين الأطراف السياسية المتنافسة، وهو الأمر الذي يخلق بيئة خصبة كما سبقت الإشارة للتدخل الأجنبي في شؤون مجتمعنا وبلدنا.. وتأسيساً على ذلك فلا وجود لأية مشكلة في الاعتراف بمبدأ الاختلاف أو تعدد الآراء، بل إن التعددية السياسية تقوم على أساس الاختلاف في الرأي حول القضايا والموضوعات السياسية شريطة أن لايمس كل ذلك بأصول ديننا الإسلامي الحنيف، ولا النظام الجمهوري، ولا أمن أو استقلال أو وحدة بلدنا، أو بالأخلاق العامة أو بثقافة المجتمع اليمني والقيم والتصورات التي يؤمن بها، والدستور اليمني يقوم على مبدأ حق كل مواطن يمني في المشاركة سواءً بصورة فردية، أم بصورة جماعية ،لكنه لم يطلق هذا الحق بدون قيد أو شرط، بل اشترط أن كل ذلك يقوم على أساس احترام الثوابت الوطنية ومقدسات البلد، وقد جاء النص الدستوري ضمنياً ولم يوضع كمادة في الدستور اليمني، وإن كنت أتمنى كمتخصص في القانون الدستوري وعلم السياسة، وفي ظل المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية، ومجتمعنا اليمني،أن ينص الدستور اليمني صراحة على اعتبار تلك الثوابت من الأمور التي لايجوز تعديلها أو المس بها، كما كان الحال في قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمني الذي جعلها من بين الشروط الضرورية لقيام أي حزب سياسي، وفيما يتعلق بقواعد إدارة الحوار وأخلاقياته، يمكن ذكرها كما بلورها نص كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» والتي حددها المفكر العربي الكبير «محمد عابد الجابري» المقدم والمشرف على إصدار الكتاب،وهي تتمثل في أربعة مبادئ رئيسية: 1 الاعتراف بحق الاختلاف وبالحق في الخطأ. 2 ضرورة فهم الرأي الآخر في إطاره المرجعي الخاص به. 3 التعامل مع الخصم من منطلق التفهم والتزام الموضوعية. 4 الاعتقاد في نسبية الحقيقة العلمية وفي إمكانية التقدم. ماأحوجنا اليوم في مجتمعنا اليمني إلى مثل هذه الأخلاقيات التي ذكرها «ابن رشد» مؤسس الفكر العقلاني العربي في حواراتنا وخلافاتنا السياسية، وماأحوجنا إلى العودة إلى كتب التراث العربي والإسلامي لمعرفة آداب الاختلاف والحوار بين مختلف الفرقاء السياسيين، والتي عرفتها قديماً مجتمعاتنا العربية والإسلامية علنا نقتبس منها ونتمثلها في واقعنا اليوم.