وما لا شك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتي عام1991م ونهاية الحرب الباردة وما أحدثته هذه الوقائع الدرامية آثار بالغة العمق على بنية المجتمع العالمي بجوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية قد فتح باب الأمل لصياغة نظام دولي جديد، وهذا النظام الجديد كما أكد المبشرون به سيكون متسماً بسيادة علاقات دولية سلمية بين الدول وتطبيق مبدأ سيادة القانون بغير تمييز وذيوع الديمقراطية الليبرالية في كل أنحاء العامل باعتبارها المذهب السياسي الذي سيحقق الأمن والرخاء للشعوب وكل ذلك تحت لواء نظرية الاقتصاد الحر التي انتصرت على نظرية الاقتصاد الموجه. غير أن كل هذه الوعود المبهرة لم تتحقق وذلك أن العقد الأخير شهد على مستوى العالم ليس أقل من خمسين صراعاً عرقياً ومجتمعياً وحوالي مائة وسبعين صراعاً حول الحدود وحربين رئىسيتين استدعتا تدخل قوات أجنبية، وهكذا يمكن القول كما عبر عن ذلك تقرير مهم لمركز بحوث الصراع التابع للأكاديمية العسكرية سندهيرست في انجلتر عام2003م أن نهاية الحرب الباردة قد أسلمت العالم في الواقع لحقبة تاريخية تدور فيها حروب ساخنة، وهذه الحروب كانت تتم السيطرة عليها في ظل الحرب الباردة نتيجة هيمنة كل من الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية على النظام الدولي وقدرة كل منهما على كبح جماح الدول الداخلة في إطار نفوذها، ولكن بعد نهاية الحرب الباردة انفلت العيار ودبت الفوضى لدرجة أن مفكراً استراتيجياً فرنسياً شهيراً أصدر كتاباً مهماً منذ سنوات بعنوان «انفلات العالم» لكي يصنف ويحلل هذه الظواهر الصراعية وما أدت إليه من حروب محلية وإقليمية. نظام جديد أمام فوضى عارمة؟ والمتأمل في أحوال العالم التي سادت في العقد الأخير يمكن أن يصل بسهولة إلى نتيجة مؤداها أن النظام العالمي الجديد الذي كان متوقعاً نشوؤه بعد نهاية الحرب الباردة لم ينشأ، بل قد برزت موجات متتالية من الفوضى العارمة جعلت عديداً من المراقبين يخلصون إلى أننا نعيش في الواقع في ظل «لا نظام دولي» والشواهد على ذلك متعددة في الواقع، ولنحلل وعود النظام الدولي الجديد التي أشرنا إليها في صدر المثال وعداً لنحدد الفجوة بين الوعد والممارسة الفعلية. فهل صحيح أنه سادت العالم علاقات دولية سلمية أم أن الصراع قد اشتد ودبت الخلافات العنيفة بين الدول العظمى؟ ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى حرب البلقان بكل ما دار فيها من فظائع وعلى رأسها نزاعات «التطهير العرقي البربرية» وما استدعته من تدخلات دولية متشابكة ومعقدة وما أظهرته من تغيرات ايديولوجية صارخة. غير أن الحدث العالمي الأهم والذي أدى إلى تهديد خطير للأمن العالمي هو ما لا شك فيه ما تبع الأحداث الإرهابية التي وقعت ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية في 119 ذلك أن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب والتي بدأت بغزو أفغانستان لإسقاط نظام طالبان وشن الغزو العسكري للعراق ضد كل قواعد الشرعية لأن فرنسا والمانيا وروسيا والصين قد رفضت جميعاً إضفاء الشرعية على الخطة الأمريكية لغزو العراق عسكرياً، وظهر واضحاً أن النزعات الامبراطورية الأمريكية يمكن أن تدمر السلام العالمي وذلك بالرغم من المعارضة العنيفة لحلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن ناحية أخرى لم يطبق وعد سيادة القانون بغير تمييز بين الدول وأبرز دليل على ذلك أن دولة اسرائيل التي تمارس الإبادرة المنهجية ضد الشعب الفلسطيني وتبني الجدار العازل ضد الشرعية الدولية رفضت تطبيق حكم محكمة العدل الدولية بإزالة الجدار وتعويض السكان الفلسطينيين المضرورين. ومعنى ذلك أن هناك ازدواجية في تطبيق المعايير والأحكام الدولية، فهي تطبق على البعض ويمتنع البعض الآخر مثل اسرائىل عن تطبيقها مدعومة في ذلك بالولاياتالمتحدةالأمريكية التي صرحت بجلاء أن النزاع لو رفع لمجلس الأمن فإنها ستستعمل حقها في الفيتو أو الاعتراض. وهل صحيح من جانب آخر أن الديمقراطية الليبرالية قد ذاعت وطبقت في كل أنحاء الأرض أم أنا أصبحت غطاء لممارسات شمولية وسلطوية واسعة المدى تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية ذاتها والتي تدعي أنها زعيمة الديمقراطية والدافعة لتطبيقها في البلاد الإسلامية والعربية مع أن سجلها اليومي الدامي في العراق يشهد بعكس ذلك على طول الخط، وذلك بالرغم من الدفاع المستميت عن القيم الأمريكية الديمقراطية المزعومة التي يقوم بها أنصار أمريكا بل وعملاؤها المأجورون في عديد من البلاد الغربية، وإذا كان الاقتصاد الحر تحت مظلة العولمة والتي هي أبرز ظواهر القرن الحادي والعشرين قد ارتفعت راياته في كل مكان فإن آثاره الإيجابية وخصوصاً في تحقيق التنمية الشاملة وعدالة توزيع الدخول ومنع تهميش الطبقات الفقيرة والوقوف ضد إقصاء الدول النامية، كل ذلك لم يثبت حتى الآن بل إن الفساد يعم عديداً من الدول النامية وبعض الدول المتقدمة ذاتها «انظر في هذا المجال فضائح العقود الأمريكية لإعمار العراق» بالإضافة إلى اتساع دوائر الفقر والفشل الذريع في إشباع الحاجات الأساسية لعديد من شعوب العالم ليس فقط بسبب خيبة نخبها السياسية الحاكمة ولكن بسبب قصور سياسات الاقتصاد الحر، وتصميمها لكي تزيد أرباح الشركات المتعددة الجنسية والتي أصبحت اقوى من الدول ذاتها. ويبقى أخيراً مجال الحوار بين الثقافات لنجد أن الصراع الثقافي قد اشتد، وخصوصاً في ظل الحملة الأمريكية الشرسة على الإسلام والمسلمين. رؤى مستقبلية وبالرغم من كل هذا التعقيد في المشهد العالمي الراهن فإن عدداً من الخبراء الاستراتيجيين قد رأوا ضرورة محاولة استشراف مستقبل الأمن في العالم في العقدين القادمين، وفي مقدمة هؤلاء خبراء مركز بحوث الصراع الذي أشرنا إليه وخبراء مؤسسة راند الأمريكية الشهيرة في تقرير حديث لها عن مسقبل بنية الأمن في الشرق الأوسط في العقود القادمة. وقد صاغ خبراء مركز بحوث الصراع عدداً من التنبؤات المستقبلية المهمة يمكن إيجازها فيما يلي: 1 سيبقى العالم متعدد الاقطاب بالرغم من النزعة الامبراطورية الأمريكية التي تدفع لكي يكون عالماً أحادي القطب تنفرد به هي بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتفوقها الاقتصادي. وهناك احتمال أن يسير العالم في طريقين مختلفين: نحو التكامل الاقتصادي بالرغم من الحركات المضادة للعولمة، وفي اتجاه التشتت السياسي في نفس الوقت، ومن هنا يصح القول أنه سيكون في بنية المجتمع العالمي بذور عدم اليقين وعدم الاستقرار. 2 يتوقع أن ينمو عدد السكان في العالم من 6بلايين حالياً إلى 9بلايين في العشرين عاماً القادمة ويمكن القول أن 95% من هذه الزيادة ستحدث في البلاد النامية في حين أن متوسط عمر السكان سيهبط بشكل حاد. وهذه الزيادة السكانية ستؤدي إلى ضغوط شديدة على الموارد من أول الحاجات الأساسية كالغذاء والمياه إلى تلك التي تحتلها الثروة مثل العمالة والتعليم والرعاية الصحية، وستحدث منافسة عميقة للحصول على الأرض الزراعية وفي نفس الوقت ستزيد معدلات التحضر، حيث نجد الآن 270 مدينة من المدن الكبرى في العالم يسكن كل منها ما يزيد على 8 ملايين ساكن في ما يزيد على 500 مدينة في العقدين القادمين، مما سيخلق أزمات حادة في مجال توفير فرص العمالة، وتيسير الخدمات ما سيؤدي بالضرورة إلى انهيار الأوضاع الاجتماعية، وستدفع هذه الاتجاهات إلى مزيد من الهجرة من الريف للمدن، ومن الدول النامية إلى الدول المتقدمة، ما سيدفع إلى توليد صراعات طبقية متعددة بل وإلى صراعات دولية أخرى. 3 ستغيم الحدود الإقليمية بين الدول بحكم انتشار الثورة المعلوماتية، وسيادة التكنولوجيا التي ستمحو فروق المسافات ويتنبأ البعض أن العالم إذا زاد عمق اتصاله ببعضه البعض فإن ذلك في حد ذاته سيجعل السلام يسود أطرافه، غير أن ذلك إن كان يصدق نظرياً على الدول المتقدمة بحكم بروز نسق قيم مشترك بين شعوبها إلا أنه قد لا يصدق على الدول النامية، والتي ما زالت هناك جذور عميقة للصراعات العرقية والسياسية والثقافية بين دولها. 4 ستنتشر الإبداعات والابتكارات التكنولوجية في كل أنحاء العالم، وقد يكون لذلك آثار إيجابية في مجال الأمن، فعلى سبيل المثال ستزداد القدرة على مقاومة الأمراض والشفاء منها، وإنتاج الغذاء الرخيص، وحل بعض المشكلات البيئية، وهذا كله من شأنه احتمالات وقوع الصراع غير أنه من ناحية أخرى يمكن أن تؤدي التكنولوجيا وخصوصاً في مجال السلام إلى آثار ضارة للغاية وخصوصاً في ظل ظهور ونمو جماعات إرهابية متعددة في العالم لا يمكن السيطرة عليها. 5 من المحتمل زيادة معدلات أسلحة الدمار الشامل ومن شأن هذا التطور التهديد الخطير لبيئة الأمن الدولي. 6 هناك اتجاه للانتقاص من سيادة الدول بحكم تأثير العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية وصعود نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات، وهذا الوضع قد يكون له مردود سلبي على سياسات الدول في مجال إشباعها للحاجات الأساسية للجماهير العريضة. هذه بعض التنبؤات المستقبلية عن بنية الأمن العالمي في العقدين القادمين، وكل منها يحتاج في الواقع إلى تحليل نقدي رصين للكشف عن مدى ثباتها وصدقها في ضوء الوضع العالمي الراهن. لإصلاح العربي بين الواقع السلطوي والرأي الديمقراطي