في عصور غابرة لم تكن من ثقافة تسود بلاد العرب غير نزعة الاحتراب والاستلاب التي تمارسها القبائل على بعضها، وتجعل منها مصدراً لتفاخرها، وتفاضلها حتى جاء الإسلام فصار يجتث هذه القيم. حين يعود اليوم البعض إلى أعمال التقطع والاستلاب، والاختطاف فلا شك أننا غير معنيين بالحديث عن «عودة»، وينبغي تناول الحالة بالوصف ب«بقايا» زمن غابر، وثقافة تقليدية بالية، وموروث سحيق ما زال يثني ظهور مجتمعاتنا، ونحلم جميعاً باجتثاثه. ليس من الصواب أن نفهم حادثة اختطاف السياح الأربعة الفرنسيين والألمان على أنها صورة عجز لأجهزة معينة أو فشل لسياسات محددة، لأن هذه الثقافة «الاختطاف» ليست وليدة نتاج عصري بقدر ما هي نتاج أحد مواريث عهود سابقة كرست الجهل والتخلف، وأشاعت الفقر المدقع إلى الدرجة التي تحول في ظلها البعض إلى ممارسة هذا العمل.. علاوة على أن الظلم الذي خيّم على حياة المجتمع وسلب أبنائه حق العدالة كان يدفع بالناس إلى انتزاع حقوقها بطريقة ظالمة أيضاً عبر عمليات الاختطاف التي يقع ضحية لها الكثير من الأبرياء. ورغم خطورة هذه الظاهرة وأثرها على الاقتصاد الوطني لكن الدولة اليمنية المعاصرة لم تولِها صدارة همومها، لأنه كان هناك ما هو أخطر منها، فقد كان أمام النظام السياسي الحالي في مقتبل عهده مسئولية تحقيق وحدة وطنية بين مختلف أطياف القوى الوطنية.. وكان أمامه مسئولية العمل من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.. ومسئوليات عظيمة أخرى مرتبطة بالأمن والاستقرار والسيادة الوطنية، والتحرر من العزلة التاريخية، وتحقيق تنمية وطنية شاملة تتحرك بمختلف الاتجاهات. إن جسامة التحديات التي واجهتها القيادة اليمنية خلقت مناخاً من الإحساس بضرورة مشابكة القضايا مع بعضها وعدم تجزئتها اعتقاداً بأن ظاهرة الاختطاف مثلاً هي أحد مواريث الفقر والتخلف، ولأجل مكافحة هذين المرضين لا بد من تنمية اقتصادية وثقافية، ومن أجل بلوغ القدر المناسب من هذه التنمية لا بد من تعزيز حالة الأمن والاستقرار وترسيخ العدالة الاجتماعية، وهذه أىضاً مسألة لا بد لها من تحولات ديمقراطية حقيقية تنمي الإحساس بالمسئوليات، وتذكي روح التنافس الوطني الشريف على البذل والعطاء بما يخلق حراكاً نشطاً في المجتمع تنتعش في ظله مختلف جوانب الحياة الإنسانية في اليمن. وبكل تأكيد إن حجم التداخل والتشابك في الملفات الوطنية اليمنية مع ضعف الموارد الطبيعية، وتدني التأهيل العلمي للكوادر الوطنية ضاعف من تعقيد المشاكل، وشكل تحدياً خارقاً لمؤسسة الدولة اليمنية بمختلف مستوياتها. لكن رغم كل ذلك نجحت اليمن في التغلب على كثير من تحدياتها بفضل وعي نظامها السياسي بتلك العلاقات الجدلية التي أسلفنا ذكرها والتعامل معها بجدية وحزم، ثم الإقدام على الخيارات الديمقراطية بجرأة كانت حتى قبل بضعة أعوام توصف أنها مجازفة أو مغامرة من قبل نظام الحكم إلا أنها أثبتت جدواها سريعاً وباتت تتفاعل مع احتياجات المجتمع اليمني بصورة واعدة.. وبالتالي فإن تحقيق اليمن لمكاسب جيدة على مختلف المستويات منحها القدرة على الحد من القدر الأعظم من المواريث البالية التي ورثتها عن العهود الرجعية السابقة. ولعل ظاهرة الاختطافات للسياح الأجانب لم تكن بمنأى عن معالجات الدولة، بل إنها بعد الوحدة اليمنية بدأت تطفو إلى سطح التداول السياسي كإحدى الأولويات الوطنية في المواجهة، وهكذا بدأت الظاهرة بالتراجع والانحسار حتى أصبحت مع نهاية الألفية الثانية ليست ذات شأن مقلق كما كانت عليه حتى منتصف تسعينيات القرن العشرين. قد يعتقد البعض أن هناك قصوراً أو تخلفاً في سياسات المواجهة الحكومية، وهو ما تطرحه بعض القوى السياسية كونها تتطلع إلى حزم بشدة من قبل الحكومة.. وهذا المنطق لا يصمد أمام النقد لأنه يمكن أن يكون خياراً لولا أن الظاهرة جزء من موروث ثقافي لا تجدي مع سياسة الردع بالعنف بقدر حاجته إلى المكافحة انطلاقاً من مسبباته، أي إعادة تأهيل تلك المناطق، وتكثيف الجهد الحكومي الرامي لرفع المستوى الثقافي وزيادة الخدمات التنموية، وكسر العزلة الاجتماعية والثقافية، واتخاذ تدابير حقيقية ملموسة للحد من الفقر والبطالة، وهذه كلها متطلبات بحاجة إلى موارد هائلة لتلبيتها سريعاً، لذلك فإن العملية تسير بوتيرة قد لا يقتنع بها البعض إلا أنها وتيرة مستقرة في سيرها وسرعتها، وستستغرق وقتاً حتى تنجح في الإعلان عن اجتثاث الظاهرة نهائىاً. وهنا لا بد من التنويه إلى أن المسئولية لا تقع على الحكومة وحدها، بل إن المجتمع المدني والإعلام مسئولون أىضاً في لعب أدوار تكميلية للجهود التنموية الحكومية في رفع الوعي المجتمعي والتضافر لأجل مكافحة كل مظاهر السلبية بثقافة بديلة آمنة وناضجة.