لم يكن متاحاً لأوروبا الانعتاق من كابوس القرون الوسطى لولا ذلك الانقلاب العظيم على القوى التقليدية والتي ظلت جاثمة على أنفاس أوروبا لقرون، تصادر كل فرص تقدمها، وتكبل نخبها العلمية والثقافية والفنية بموروث ثقيل من العقائد والأعراف والطقوس الكهنوتية المختلفة. وفي الحقيقة لم يكن ما حدث في أوروبا انقلاباً «علمانياً» على الدين «الكنيسة» - كما يدعي البعض - بل كان انقلاباً على مصادرة الدين من قبل القوى الانتهازية، التي تنكرت بجلبابه، واستغلت قوة تأثيره على الثقافة الشعبية لتمرر من خلالها أطماعها المادية بجملة من المعتقدات الخرافية التي لم ينزل الله بها من سلطان والتي نجحت من خلالها في ابتزاز الدولة والشعب على حد سواء! بتلك الممارسات جمعت القوى الانتهازية ثرواتها الطائلة، وأوجدت طبقة الإقطاعيين الذين تملكوا كل شيء بحماية الكنيسة، في نفس الوقت الذي تحول السواد الأعظم من الأوروبيين إلى حالة فقر مدقع... وقد ضاعف بؤسهم ما قامت به تلك القوى الانتهازية من مصادرة للدين، وتجريد المجتمع من قيمه الأخلاقية والإنسانية، التي لم تعد إحدى الوظائف الأساسية للكنيسة، الأمر الذي جعل ذلك البؤس مصحوباً بانهيار أخلاقي وفساد. إن ما يهمنا في تلك الحقبة هو أن الانقلاب الذي حدث لم يكن عسكرياً أو سياسياً، وإنما كان فكرياً وثقافياً قادته نخب المجتمع الواعية التي فجرت وعياً شعبياً غير مسبوق، استطاعت من خلاله إنتاج الثورات الوطنية التي أطاحت بنفوذ القوى الاقطاعية، والكهنوتية، وأنهت عصر «اللوردات»، ثم تولت بنفسها قيادة مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وشرعت في عملية إصلاحات واسعة جداً شملت حتى النواحي الأخلاقية للمجتمع، وأعادت رأب الانكسار النفسي للمواطن الأوروبي لتنمي بداخله شعور الاعتزاز بالذات والإرادة الوطنية. عندما نتصفح تاريخ الشعوب نكتشف أننا نقف بعيداً جداً عن تجاربها، وأننا لم نستلهم شيئاً من دروسها، بل إن الغالبية العظمى من نخبنا السياسية لا تكترث للاطلاع على تجارب الشعوب، ولا تتعدى أن تكون ثقافتها «تلفزيونية» مستمدة مما تعرضه الفضائيات، لذلك غاب التفكير السليم بآليات التغيير، وظلت القوى السياسية تكرس بقاء القوى التقليدية بكل مفاهيمها ومواريثها البالية، رغم إدراك الجميع لحجم الضرر الذي ألحقته هذه القوى بحياة المجتمع، وتنميته، وبرامج تطوره..! ولعل من أوضح مظاهر غياب الوعي السياسي بأدوات التغيير هو تخلف النخب الأكاديمية عن ركب وسائل تنمية الوعي.. إذ إن العودة إلى أي صحيفة صادرة في اليمن تضعنا أمام سؤال مهم هو: أين أساتذة الجامعات، والأدباء، والمفكرون، وعلماء الدين من هذه الصحف!؟ ولماذا أوكلت مهمة نشر الوعي وتنميته، والتحليل السياسي والاقتصادي لأناس عادين جداً، يستمدون خبراتهم من اجتهادات شخصية، وثقافة محلية مكتسبة بالاحتكاك وليس من دراسات علمية أكاديمية!؟. إن هذا التغييب للنخب الأكاديمية أعاق مسيرة تقدم اليمن، وتسبب بفوضى ثقافية، والتباس الوعي بالكثير من القضايا الوطنية، أي تضليل الساحة الجماهيرية عن مساراتها الحقيقية التي ينبغي أن تضع نفسها فيها، وتعمل من خلالها لبناء المستقبل.. ومالم نعد تصحيح أوضاعنا، ونراهن على تلك النخب فإن مشاكلها ستتفاقم وسنجد أنفسنا مكبلين بنفس الأدوات التي كبلت أوروبا طوال فترة القرون الوسطى.