يعود العيد بذاكرتي إلى قاعة الدرس في الصف الثالث الثانوي، وتحديداً إلى مقر «القراءة والمطالعة» ومقال شيّق للمفكر العربي/محمود أمين إن لم تخني الذاكرة حول تطور العلم ومصير الحياة البشرية بعنوان «إلى أين يسير بنا العلم.. العمران أم الدمار؟». ستة عشر عاماً والعراق لم يسكن له جرح.. من حلف ظالم فتك بالعباد والبلاد إلى حصار جائر قتل الصغار والكبار.. ثم احتلال .. وإرهاب يهتز لجرائمه عرش الخالق في السماء. ستة عشر عاماً من الويل والثبور ولم تجف الدماء بعد.. ولم تعرف الشفاة فرحة عيد أو ميلاد أو عرس، وليس من كرنفال يمر في شوارع بلاد الرافدين غير مواكب الجنائز والجثث المقطوعة الرؤوس، وكرنفالات النائحات الثكالى، وصراخ اليتامى، وعويل المفجوعين، ودوي انفجارات مريعة ترعد الأفئدة، وترجف الصدور.. وبعدها يرتقب الجميع أن يطرق باب داره ليخبروه أن حبيباً له قد صار أشلاء في الطريق، وتناثر لحمه بين القمامة والحجر..!. مريع هذا الاحتلال.. مريع هذا البلاء.. وكل شيء فظيع حتى قلوبنا لا نعرف كيف تجلّدت واحتملت فوق طاقة الألم، والخوف، وسنوات القلق.. وحتى عيوننا لا نعرف كيف لا تريق الدموع وقد عايشها الألم وسكنتها الفواجع، وأعوام مريرة من الحرمان. ستة عشرة عاماً وهذا البلد الذي كان بالأمس يسمى «أرض السواد» لكثر خيره وزرعه، ونفطه، صار يستجدي لقمته من الدول المانحة، ومن أكف الاحتلال كما لو أنه لم يعرف للنعمة من قبل طعماً، ولم يعرف للكرم اسماً، ولم يكن بالأمس يغرق الخير في عواصم العرب، ويحفظ لها الكرامة. حقيقة واحدة ظلت لنا بعد ستة عشرة عاماً من الحزن المقيت، والموت الزؤام وهي أن نختار بين أن نموت أذلة بلا رؤوس على طرف كدس قمامة بطريقة إرهاب المحتل، أو أن نحمل البندقية ونقاوم.. ونقتل المحتل، وكل من جاء بهم على دباباته الفولاذية إرهابيون، وعملاء، ولصوص تاريخيون للحضارات العظيمة، وموساد يغتالون العقول، ومتطرفون يشعلون الفتن، ويفصلون رؤوس الأطفال بعد قول «بسم الله الرحمن الرحيم» وتلاوة آية الذبح من القرآن. الأعياد تمر بالشعوب لتنعش في نفوسها الأفراح، وترسم البسمات على الشفاه، وتوصل الأرحام وتشد أواصر المحبة والوداد.. لكنها منذ ستة عشرة عاماً تمر على أرض السواد لتؤجج آلام العوز والجوع، ولتحيي فجائع الأحبة الراحلين في كرنفالات المواكب الجنائزية الجماعية، ولتذكر الجميع أن الموت يتربص بها على ناصية رصيف بسيارة مفخخة أو جماعة إرهابية تحز الرقاب البشرية، كما تحز أعناق المواشي في المسالخ. لا ندري كيف انسلخ العراق من جسد الأمة، أو كيف تبرأت الأمة من جسد العراق، فلا أحد يكترث لما يجري بأكثر من تداول الأخبار المريعة في وسائلهم الإعلامية. العراقيون يختارون المقاومة، ويختارون الموت، وهم يحملون البنادق بأيديهم، ولكن من في هذا العالم الفسيح سيقف في خندقهم؟ من يدعم مقاومتهم!؟ من يؤمن بحقهم بالمقاومة!؟ ومن يعترف ولو مرة أن على شعبه واجب نصرة المقاومة العراقية، وفرض مدّهم بالمال والسلاح، والموقف المعنوي الذي يؤجج حماس العراقيين للكفاح المسلح!؟. الكل يحاصر العراق مجدداً كما حاصروه قبل دخول الاحتلال.. فأي لعنة هذه التي أصابت حكومات الأمة، وأردتها في وحل جبنها، وهزيمتها، وتخاذلها عن نصرة قضية عادلة تقر بها حتى الشرائع الدولية. ستة عشرة عاماً وشعب العراق ينزف ظلماً، وقتلاً، وجوعاً، وإرهاباً، وخوفاً، وانتهاكاً لإنسانيته، ومازال النزيف يدمي أرض السواد التي لم تعد تستحق هذا الوصف إلا لأنها لبست السواد، وسكنتها الأحزان، وآلت حياتها إلى ظلم أسود قاتم. نتمنى أن يتركوا العيد يمر بأرض السواد لنعيّد لونها.. وليتجلى بصيص أمل لرحيل الاحتلال.. وهي أمنية لن تتعدى سواها من الأمنيات والأحلام مالم تنبعث كرامة الأمة مجدداً، وتصحو حكومات العرب من غفوتها، وتأخذ بأيدي العراقيين إلى طريق الكفاح المسلح من أجل الحياة بعزة أو الموت بكرامة.. ومن أجل وضع نهاية لأبشع تراجيديا شهدتها البشرية منذ عصر الجاهلية وحتى زمن الديمقراطيات المعلبة في مصانع الولاياتالمتحدةالأمريكية.. والمسوّقة إلى بلداننا على متن البارجات الحربية وطائرات «بي 52» التي مسحت مدناً عراقية من خارطة التاريخ. لديننا الإسلامي الحنيف.