العملية التى جرت ضد مجمع فنادق قرب ميدان الفردوس ببغداد، حملت كثيراً من الدلائل والمؤشرات في توقيتها وطريقة تنفيذها، إذ هى أظهرت أن المقاومة قادرة على الضرب في أي مكان وأنها تمتلك القدرة والفهم على الربط بين الموقف السياسى والتكتيك العسكري-بحكم أنها جاءت قبل إعلان نتائح الاستفتاء على الدستور-وان عملياتها بدأت تأخذ سمة العمليات المركبة إذ شملت العملية تفجير عدة سيارات وفق تزامن زمنى محدد سلفا، وقصفا بالهاون واشتباكاً بالأسلحة الخفيفة. كما كشفت العملية كيف أن أجهزة المقاومة، الأمنية والعسكرية، أصبحت قادرة على اختراق كل الأماكن مهما كانت درجة تأمينها وتحصينها أو أنها أصبحت أعلى حرفية من كل الأجهزة التى تواجهها على الأرض العراقية.غير أن أهم دلالات العملية أنها كشفت أن قوات الاحتلال رغم كل العمليات التى قامت بها منذ نهاية المواجهة مع الجيش العراقى في ابريل 2003 وبعد حله وجميع أجهزة الدولة، لم تزل حتى الآن غير قادرة على السيطرة على العاصمة المحتلة، بل حتى غير قادرة على حفظ استقرارها في الفناء المحيط بثكناتها ومناطق تمركزها، وبأماكن نزول قياداتها وضيوفها وزوارها. وواقع الحال أن أزمة القوات الأمريكية في احتلال العراق أو مأزقها، تظل ابعد وأعمق من الدلالات المباشرة للعملية الأخيرة قرب ميدان الفردوس، فالعمليات ومستواها وتوقيتاتها لا تعكس إلا جانباً من حقيقة الاضطراب الشامل الذى تعانيه الولاياتالمتحدة في احتلالها للعراق منذ بدايته وحتى الآن، هذا الاضطراب الذى وصل إلى درجة يمكن معها القول، إن الولاياتالمتحدة باتت -فى الوقت الراهن وبحكم ما تواجه-فى حالة مكابرة بعدم الاعتراف بالفشل، أكثر مما تحاول ترتيب الأوضاع في العراق بصورة تضمن لها ضمان استمرار احتلال هذا البلد والسيطرة عليه لمدة طويلة، ذلك أن الجانب الآخر من حقيقة الصورة، يكشف أن كل المشروعات السياسية والأمنية والعسكرية التى كرست الولاياتالمتحدة جهودها من اجل إنجاحها قد فشلت، وان لحظة خروج القوات الأمريكية حينما تأتى، لن تكون المحصلة التى أنجزتها أكثر من إحصاء للخسائر البشرية في صفوفها والأموال التى أهدرتها وحجم التكسير والهدم لقدرات الجيش العراقى وإعداد الشهداء العراقيين، لا أكثر ولا اقل، حيث لم تستطع الولاياتالمتحدة لا بناء جيش عراقى جديد ولا جهاز أمني جديد يعملان لخدمتها في العراق، كما هى لم تستطع بناء منظمات وجماعات سياسية موالية لها قادرة على السيطرة السياسية على الشعب العراقى ليقبل بالاحتلال طوعيا بعد رحيل قوات الاحتلال من الشوارع. وهنا تحديداً تأتى أهمية التصريح الأخير الصادر عن قوات الاحتلال بأنها لا تملك استراتيجية لمواجهة "المسلحين في العراق "، كما تأتى أهمية زيارة عمرو موسى إلى بغداد لطرح مشروع عربى للتآلف أو المصالحة أو التوافق بين فئات الشعب العراقى على اعتبار أن الاحتلال راحل، بنفس القدر الذى تأتى فيه أهمية عملية مجمع الفنادق في بغداد، حيث إن تركيب الصورة على هذا النحو يظهر حالة قوات الاحتلال بصورة شاملة في العراق، كما يطرح على بساط البحث أن ثمة توجهات فعلية تجرى دراستها لإنهاء احتلال العراق وسحب القوات الأمريكية في ضوء ما هو حادث فعلياً على الأرض. ولعل أهم الدلائل على ذلك، أن لغة جديدة ظهرت لدى أطراف عراقية بأنها مستعدة للتواصل مع المقاومة لا الإرهاب، وان ليس كل البعثيين مجرمين وأنها قابلة لعودة البعثيين إلى أجهزة الدولة، بينما هى كانت من قبل تتحدث بجبروت وتجبر أن ليس هناك مقاومة وإنما إرهاب، وان البعثيين لا مكان لهم إلا المشانق قبل المحاكم..الخ. وصف الحالة فى الجانب الأول من الصورة تبدو الولاياتالمتحدة كغريق يحاول التشبث بقشة تنقذه من الغرق، ولما كانت الولاياتالمتحدة دولة وليست فرداً، فالسلوك يختلف والآليات والأدوات تختلف، والقشة هذه في عالم السياسة قد تكون محاولة للتمسح بقوى داخلية أو بقوى خارجية -حتى لو كان في ذلك إذلال -وقد يكون استدعاء لدور شخص أو هيئة أو منظمة أو جامعة لا دوراً فعلياً لها، فان فشلت وتناهى إلى عقلها وتقديراتها من حيث الوقائع أنها ستغرق لا محالة فإنها تحمل قواتها من الدولة المحتلة وترحل. وهى في محاولتها للتشبث بقشة شدت رحالها تجاه سوريا مستجدية دوراً أوروبياً في إطار الاتفاق الفرنسي الأمريكى لإنقاذ نفسها، كما هى قامت بلعبة الدستور إلى أن وصلت مؤخراً الى أن ليس أمامها إلا إعطاء الضوء الأخضر للجامعة العربية للتحرك لإنقاذها. وفى الجانب الآخر من الصورة تبدو الولاياتالمتحدة أنها وصلت إلى حالة الثور الجريح الهائج، الذى ما عاد يرى أمامه من كثرة الطعان حيث المقاومة باتت تحاصر القوات الأمريكية بالموت في كل لحظة وحيث كل الحملات العدوانية التى زادت على المائة جميعها فشلت، وحيث هى باتت في مصيدة، وهى بسبب هذه الحالة باتت تضرب حتى جنود الجيش العراقى العميل كما هى باتت تستخدم القوة بالطريقة التى كل آثارها سلبية، حيث إنها تحت ضغط المقاومة باتت اقل قدرة على استخدام الهليوكبتر فبدأت باستخدام الطائرات ثابتة الجناح في قصف المساكن بما يحدث كوارث للسكان، وبما يعني أنها كلما حاولت مواجهة المقاومة أشعلت كل النيران ضدها أكثر وأكثر. وفى كلا الوصفين، فإن البيان الذى صدر عن قيادة جيش الاحتلال معلناً «أن القوات الأمريكية لا تملك خطة لمواجهة المسلحين» يعد واحدا من أهم التصريحات التى صدرت في الآونة الأخيرة والتى تفصح عن كلا الحالتين حيث من لا يمتلك خطة للنجاة إما أن يغرق أو يتحول إلى ثور هائج. وفى تحليل مضمون هذا البيان فان ثمة جوانب كثيرة، منها أن التصريح جاء خلال زيارة عمرو موسى إلى بغداد كإعلان سياسى يشير إلى أن قوات الاحتلال حاولت تسهيل مهمة موسى يعنى أنها يمكن أن تتعامل مع ما يتوصل إليه موسى بجدية باعتبار أنها لا تملك خطة مسبقة، وبالتالى فهى مستعدة للتفاهم حول خطة يطرحها آخرون.ومنها أن القوات الأمريكية لم تعد تشعر بالحرج من القول بأنها وبعد كل هذا القتل والتدمير وكل الحملات والغارات باتت ترىانها غير قادرة على تقديم خطة لما تعيشه في العراق (وكما هو معلوم فإن القتال بدون خطة يعنى إعلاناً للفشل وان الآخر الذى يمتلك خطة بات قادرا على الفوز بالحرب ).ومنها أن قيادة الجيش الأمريكى في العراق التى تعيش وسط النار وتحاصر بالموت باتت تساهم ايجابيا في الحملة الداخلية الجارية من اجل إعادة الجيش الأمريكى من العراق حيث التصريح يمثل تشكيكا خطيرا أمام الرأى العام الأمريكى في كل ما يقوله بوش ورامسفيلد. غير أن الأهم في هذا التصريح انه يكشف كيف أن القوات الأمريكية وصلت لمأزق فعلي خطير وأنها لم تعد قادرة على مواجهة الأوضاع في العراق اعتمادا على القوة العسكرية، وان هذا هو السبب الذى دفع الولاياتالمتحدة إلى إعطاء الضوء الأخضر لعمرو موسى للتدخل، حيث هذا الضوء الاخضر اعتراف أمريكى اكبر بان القوة العسكرية أصبحت فاشلة في التصدى للمقاومة، وانه لم يعد هناك بد من إدخال طرف عربى -وهى التى رفضت من قبل اى دور عربى-قادر على التفاهم مع أطراف عراقية ترفض مجرد فكرة الحوار مع الولاياتالمتحدة، كما هو اعتراف بان العملية السياسية التى عملت قوات الاحتلال على إنجاحها في العراق لم تنجح وأنها باتت مطالبة بجهد آخر ليس في وسعها ولا في قدراتها هى القيام به، ومنها أن الولاياتالمتحدة باتت تفتش عن طريق آمن لتحقيق أهدافها خلال العدوان والاعتداء عن طريق آخرين-خاصة ان هذا الأمر يأتى مع تحول واضح عن التصرف المنفرد دوليا كما هو باد في الإعداد والتجهيز للمؤامرة على سوريا من التزام تام بدور مجلس الأمن الدولى -ومنها انها أيقنت أن الضغط على سوريا لن ينجح في ضوء استمرار الأوضاع في العراق على حالها فقررت ترك الأوضاع مؤقتا في العراق للتفرغ لما يجرى ترتيبه ضد سوريا، ومنها انها باتت تفتش عن حل يحفظ ماء وجهها للخروج من العراق وان ذلك سيأتي عبر المؤتمر الداعى له عمرو موسى والمدعوم من دول عربية رئيسية بما يؤمن من بعد دعما ماليا للعراق المخرب بأيديها. المأزق وحدوده؟ حتى نعرف حدود الخيارات المتاحة لابد قبلا أن نتعرض إلى طبيعة ومستوى المأزق الذى وصلت إليه قوات الاحتلال الأمريكى في العراق على كافة الصعد.وهو ما يمكن أن نحدده في التالى: أولا: ثبتت المقاومة العراقية نفسها كحالة لا يمكن القضاء عليها لا حربا وعدوانا ولا عن طريق الألاعيب السياسية، حيث الحصيلة الفعلية وعلى صعيد الوقائع في العراق تؤكد أن المقاومة واصلت دورها منذ بداية احتلال بغداد وحتى الآن دون انقطاع أو ضعف، وأنها تقوى يوما بعد يوم وأنها تطور تكتيكاتها وأسلحتها المستخدمة ووصلت قوتها إلى درجة أن القوات الأمريكية لم تعد قادرة بشكل فاعل على استخدام أهم وسائلها القتالية ألا وهى طائرات الهليوكبتر في مناطق كثيرة في وسط العراق. ثانيا: أن الجماعات السياسية التي تؤيد نشاط المقاومة هى الأخرى تثبت وجودها داخل العراق وان محاولات قوات الاحتلال لإضعافها لم تفشل في كسر شوكة قوتها فقط، بل إن هذه الجماعات حصلت الآن على مصداقية داخلية ومصداقية تمثيل عربى ودولى، وان هذه الجماعات ثبتت على نحو عقيدي وسياسى فكرة مقاومة الاحتلال في أذهان العراقيين على المستوى الشعبى لأعلى مستوى الكادر السياسى فقط.وربما من المهم الإشارة هنا إلى أن الجماعات السياسية التى تعاملت مع قوات الاحتلال للحلول محل الهيئات السياسية الداعمة للمقاومة لم تتمكن من ذلك. ثالثا: لم يعد من الممكن استمرار المراهنة على حدوث انقلاب شامل بتأييد الاحتلال في موقف أبناء الشعب العراقى من مختلف الأطياف، يتأسس عليه تأييد الاحتلال بحكم استمرار المقاومة واستمرار الفشل الأمريكى وزيادة انكشاف الأهداف الأمريكية يوما بعد يوم، وكذا بحكم أن دورة الصراع في مجملها باتت تصب في صالح زيادة قوة المقاومة حيث القوات الأمريكية وبعد تحولها إلى حالة الثور الهائج المثخن بالجراح باتت عملياتها العسكرية تؤدى إلى تأجيج مشاعر الغضب. رابعاً: فشلت الخطة الأمريكية لبناء جهاز دولة عميل يلقى قبولاً من مختلف مناطق العراق ومختلف مكوناته، بل إن قوات الاحتلال باتت ترى أن جهاز الدولة الذى أرادته عميلاً لها وحدها أصبح فعلياً في خدمة أطياف أخرى متحالفة مع الاحتلال، وهو أمر وان كانت قوات الاحتلال لا تمانع في حدوثه مؤقتاً لكنها تعتبر استمرار هذه الحالة خسارة استراتيجية، إضافة إلى أن اللعبة باجماليها على صعيد بناء جهاز الدولة الجديد في العراق لم تنجح في إخراج جهاز الحكم من المنطقة الخضراء إلى الشارع دون حماية الشرطة والجيش الجديدين. خامسا: بات المشهد الأمريكى أمام دول الجوار مهتزاً بل باتت الولاياتالمتحدة تسمع من أطراف عربية مقولة: "لقد حذرناكم ولم تسمعوا لنا والآن تأتون لنا ننقذكم " وهو أمر خطر على الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة فيما هو ابعد من احتلال العراق. سادسا: على صعيد الوضع الداخلى في الولاياتالمتحدة، فإن الأحوال بسبب العراق باتت تهدد «بوش» وإدارته تهديداً حقيقياً. لم يعد الأمر قاصرا على انخفاض شعبية بوش إلى مستوى يجعله رئيساً لا يحظى بأي دعم شعبى ولا يحظى بأية مصداقية لدى مواطنيه، وإنما الأخطر بالنسبة له أن أركان الحزب الجمهورى باتوا يتساقطون في قضايا فساد وانتهاك قوانين إلى درجة جعلت بعض المحللين يرون أن نائب بوش قد يحاكم هو وآخر من كبار المسؤولين في البيت الأبيض فيما يشبه قوة فضيحة ووترجيت. سابعا: القوات الأمريكية في نهاية هذا العام ستصبح في واقع الحال في حالة خطر حقيقى يفوق كل التصورات التى توقعتها، حيث من المقرر أن تنسحب كثير من قوات "حلفائها " من العراق، وأهمها قوات ايطاليا والنرويج وبولندا وهو أمر يأتي في وقت يعانى فيه الجيش الأمريكى من صعوبات كبيرة في تجنيد أفراد جدد في داخل الولاياتالمتحدة بما يضعف إمكانات إرسال جنود إضافيين للعراق. الخيارات كلها مُرَّة الخيارات المتاحة أمام الولاياتالمتحدة في العراق. ويمكن القول بان الخيارات المتاحة في حدود الظروف المشار إليها سابقا كالتالى: أولا: جلب عدد واسع من القوات الأمريكية الى العراق لتحقيق السيطرة عن طريق إيجاد حالة إرهابية أكثر مما تقوم به الآن، وهو احتمال يتعارض أو يواجه عدة عقبات بعضها داخل الولاياتالمتحدة وبعضها يتعلق بالأخطار التى تحدق بهذه القوات.فعلى صعيد الوضع الداخلى فان مجرد الإعلان بإرسال قوات اكبر ربما ينتج عنه صدمة خطيرة داخل الولاياتالمتحدة في ظل ظروف هى بالكاد تحافظ لبوش والجمهوريين على إكمال الدورة الرئاسية الثانية.وعلى صعيد المخاطر في العراق فإن إدخال قوات أوسع يعنى بالدقة تقديم صيد أسهل للمقاومة العراقية. ثانيا: استدعاء الدور العربى على نحو واسع مع إبقاء قوات الاحتلال وإعطاء تنازلات للأنظمة العربية على صعيد الضغوط التى كانت تمارسها ضدها على مستوى تحسين إدارات الحكم وفتح مساحات من الحرية تسمح للمجموعات الأكثر ارتباطا بالولاياتالمتحدة بالوصول إلى السلطة، أو ترك فرصة لكل الدول الإقليمية للتدخل في العراق وفق أشكال متعددة ومتنوعة مع سحب قواتها تحت غطاء من دور عربى أو من الأممالمتحدة، وكلاهما أمر يعني القبول بنتائج اقل لعملية الاحتلال لا تتناسب مع الخسائر الكبيرة التى دفعتها الولاياتالمتحدة، أو البحث عن الخسارة القريبة والاكتفاء بما جرى للولايات المتحدة على صعيد سمعتها ومكانتها الدولية وهو أمر لاشك سيفتح الباب أمام قوى دولية للدخول على الملف العراقى وفى المنطقة بما يعرض الولاياتالمتحدة لمخاطر ابعد مدى من فكرة الخسارة في العراق تصل إلى تهديد سطوتها وسيطرتها الدولية، كما انه على الأقل يعنى أنها تمنح إيران الفرصة التاريخية الكاملة -مع الوضع في الاعتبار كافة الاحتمالات والنتائج المتعلقة بالصراع على العراق-لكى تكمل مشروعها النووى حيث لا يمكن للولايات المتحدة أن تنسحب من العراق اليوم لتقصف إيران غداً على الأقل على مستوى الرأى العالم الأمريكى. ثالثا: السعي لتشكيل حكم واسع الأطياف في العراق مع عزل المقاومة فقط، وهو ما يبدو الآن من خلال ما يقال عن التمييز بين المقاومة والإرهاب والتمييز بين البعثيين الذين كانوا في الحكم والبعثيين الذين لم يشاركوا في الحكم، وهو ما يمكن الولاياتالمتحدة من تشكيل جيش عراقى وجهاز دولة عراقى يحظى بمصداقية أوسع في الشارع العراقى، غير انه يعنى أيضاً إنهاء كل ما استحدث في العراق منذ احتلاله وحتى الآن من قوانين ودستور كما يعني أن من دخلوا على ظهور الدبابات بدورهم سيعودون من حيث أتوا، وهنا ستفرض المقاومة منطقها في الداخل. الشرق القطرية