المراهنون على الإعلام كما الأنظمة المراهنة على الجماهير، فكلاهما يعلق الثقة على الرأي العام، فمن يكسب الشارع يربح مصادر القوة، والإرادة القادرة على صنع الأحداث، وتغيير الظروف، وقلب المعادلات. مفهوم الإعلام السياسي مرتبط بدرجة أساسية بمعنى تلك المقدمة، ولكن على نحو احترافي لم يدخل قاموس مؤسسات الإعلام اليمني بعد.. فهذه المؤسسات تفسر عبارة «الإعلام السياسي» كرديف للإعلام الحزبي، في الوقت الذي يرتبط الإعلام السياسي بالثوابت الوطنية العليا، والمصالح السيادية للدولة التي تهم جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية سواء كانت في مربع السلطة أم المعارضة!. إلا أن هذا النوع من الإعلام مرهون بالسلطة، ويعتبر في مقدمة مسئولياتها؛ ليس لأنه مرتبط بمصالحها أو مراكزها السلطوية، بل لأنها تمتلك الإمكانيات المادية والبشرية والمعرفية لإنشاء مؤسسة إعلام سياسي محترف قادر على التأثير في محيطه البيئي الداخلي أولاً، ثم محاور توجهه الخارجي ثانياً.. والأهم من كل ذلك أنه يعمل بمنهج علمي وليس اجتهادياً وبما يجعل خطابه قوياً بالدرجة التي لا يجاريه فيها أي منبر إعلامي منافس. وفي الحقيقة إن ساحتنا الإعلامية حتى هذه اللحظة تفتقر إلى مؤسسة بتلك المواصفات، لذلك ظلت الثوابت الوطنية تتعرض للانتهاك من قبل العديد من الوسائل الإعلامية التي لا تجد أي صعوبة في تسويق خطابها إلى ساحة الرأي العام.. ولعل المثير حقاً هو أن الإعلام تحول إلى قطاع مفتوح لكل باحث عن فرصة عمل، حيث إن هناك من يفهمه على أنه مجرد بحث عن عورات الآخر، أو كما جبهات الحرب الرد على قصف أو نيران معادية..!!. فالمعارضة ترد على إعلام السلطة وتفند أطروحاته، والسلطة ترد على تصريحات وأخبار المعارضة، وكلاهما لا يعترف بأي نقد لأخطائه، فلا الإعلام الرسمي والحزبي التابع للسلطة يجرؤ على نقد السلبيات في المؤسسات التابعة للدولة، ولا إعلام المعارضة يجرؤ على توجيه النقد لممارسات أحزابه، أو خطاباتها، وأدائها السياسي.. وبالتالي فإن الجميع مسهمون في تضييق أفق الرسالة الإعلامية، وحصرها في غايات استهلاكية، وقصيرة المدى، ولا تخدم أي مصلحة وطنية عليا. حتى الآن لا أحد يعرف كيف يستثمر الإعلام سياسياًَ.. فعلى سبيل المثال استطاعت الولاياتالمتحدة من خلال مؤسساتها الإعلامية صناعة مناخ غزو العراق بسلسلة تسريبات إعلامية من قبل البنتاغون، وال«سي آي ايه» تهول من مخاوف أسلحة دمار شامل عراقية، عززت بها الثقة بتصريحات الرئيس بوش، وكانت من المهارة والاحتراف بحيث خدعت حتى أوروبا وليس الشعب الأمريكي فقط، وبالتالي لم تحدث معارضة أمريكية فاعلة ضد قرار الحرب، فالدول المتقدمة في كثير من الأحيان لا يضطر زعماؤها لتوجيه رسائل مباشرة لقوى داخلية أو خارجية، بل يتركون الإعلام هو الذي يدير اللعبة السياسية بالنيابة، فيما الزعماء يستثمرون ردود الفعل الناجمة عنها بما يخدم غاياتهم. فالإعلام السياسي قد يلعب دوراً عسكرياً، أو ديبلوماسياً، أو اقتصادياً، أو تنموياً عاماً.. وعندما نكون في مناخ من التعددية الحزبية والحريات الصحافية فإن الحكومة غالباً ما تواجه مشكلة ضعف ثقة الرأي العام بالقرارات والمبادرات التي تقدم عليها بفعل تشكيك الرأي الآخر، وكذلك بحكم التعددية الحزبية نفسها لكن لو تأتي بعض تلك التوجهات بهيئة أنباء تكشفها منابر إعلامية موثوقة، وتعمل على تسويقها كتدابير تتخذ خلف الكواليس السياسية فإنها بلا شك ستحقق تفاعلاً أكبر.. ولو كانت موجهة ضد الفساد مثلاً فإن المعنيين بها سيجدون أنفسهم في حالة من الإرباك والقلق تقودهم إما إلى إصلاح بعض شأنهم أو الإتيان بالخطأ الفاضح الذي يوقعهم في الشراك!. لا شك أن التطلع إلى إعلام سياسي يعني البحث عن زعامات إعلامية ملمة بحقيقة الواقع السياسي، والطرق التي تدير بها الدولة أو الحزب أو التنظيم لعبته السياسية، وكذلك إلمام بكل الثوابت الوطنية، وإدراك لحجم المسئولية المناطة به. ومع الأسف الشديد أن التذرع بالمهنية الإعلامية، وحريات الرأي العام اتخذ عند البعض طابعاً انتهاكياً للغايات الوطنية العليا، إلى جانب أن معظم وسائلنا الإعلامية لم تعد تفكر بأن المجتمع بحاجة إلى توعية ثقافية، واجتماعية، وصحية، ودينية، وسياحية، ووطنية وغيرها، وأصبح شغلها الشاغل البحث عن أخبار الإثارة «الأمنية» والمناكفات الحزبية، وأحياناً مكايدة بعضها البعض، وفي مواسم الإفلاس تتناقل أخبار الحوادث المرورية!. نحن فعلاً بحاجة ماسة إلى تنمية إعلام سياسي يوجّه الشارع إلى ساحة وعي حقيقي وليس مواقف مضللة. كما يضع الدولة أمام واقع سليم وصادق تستلهم منه خططها المقبلة.. فالمبالغة في المدح أو الذم غير جائزة، والإفراط في تفضيل جانب على آخر غير جائز.. وإذا كانت صحفنا كلها تخوض بالشأن الحزبي وقضايا السياسة؛ فمن سيخاطب البسطاء والكادحين، ويوعيهم في شئون حياتهم، ويوجههم إلى ما يخدم مستقبل أجيالهم..!؟