من مسلمات التاريخ، وأبجديات الحركة الإنسانية منذ لحظاتها الأولى، أن ليل الظلم لا يدوم، وأن القهر وإن امتدلا شك يزول، وإن المقهورين وإن طال رقادهم لاشك يستفيقون، ويثأرون لأنفسهم ويقتصون ممن كان السبب في رقادهم وامتهانهم ..والقارىء للتاريخ يدرك ذلك جيداً، ويعلم أن الاستبداد ليس جديداً، فهو ملازم لحركة الإنسان التاريخية، ومقاومته هي أيضاً ملازمة لهذه الحركة وأساساً مهماً من أسسها. وكذا احتلال الإنسان لمقدرات أخيه الإنسان والسيطرة على أرضه وموارده فعل شهده التاريخ وفي فترات مختلفة منه، وشهد أيضاً مقاومة وحركة تحرر اقتلعت الاحتلال تلو الاحتلال في بقاع كثيرة من الأرض، وكانت الأمة العربية واحدة من أكثر الأمم إصابة بهذا الداء وسابقه، وكانت هي أيضاً من أكثر الأمم صياغة لدروس المقاومة والتحرير، وهي أمة ولادة لايعتورها الانقطاع ولايسكنها الموت مادام الله يكتب للأرض والإنسان الحياة إلى أن يرثها وماعليها، وهي وإن أصابتها غفوة وابتلاء بجور وظلم وحكام مستبدين أو خانعين وتابعين للأجنبي، أو باحتلال أجنبي أو ظروف غير عادية، لاشك تلملم جراحاتها، وتجمع شملها وتوحد اشتاتها وتستعيد إرادتها وتشحن طاقاتها وتحشد قدراتها وتتجه نحو المهيمن الظالم الغاصب وتقتلعه من جذوره وتضرب دروساً لايعقلها إلا العالمون الذين يدركون ماتحمله الأمة في رحمها ومايعتمل فيه ويتشكل بفضل من الله وبفعل من وقودها المتمثل برسالة خالدة لا تأفل أو تطوى. واليوم نجد الإفاقة ونراها جلية أمامنا تسر بكل معاني الحياة ودلالات الوجود الفاعل في فلسطين النازفة التي دوخت وتدوخ المقاومة فيها أعتى قوى همجية واستئصالية في العالم.فهي رغم الحصار والتجويع والترويع، وفقدان مصادر الكسب والاكتساب والأمن والاستقرار، تقاوم وتضرب أمثلة لكل الذين يجلسون على العروش والكراسي ومن تحتهم وفوقهم وأيمانهم وشمائلهم وأمامهم وخلفهم جيوش وطائرات وأسلحة متنوعة، ولكنهم يفتقدون لما تمتلكه المقاومة وهي الإرادة الحرة، والكرامة، ورفض الذل والاستسلام تحت أي مبرر وذريعة.. إن إيمان المقاومة في فلسطينوالعراق ولبنان يعكس إيماناً قوياً راسخاً أن الأقوى ليس من يمتلك الأسلحة الفتاكة والمدمرة، بل الذي يمتلك إرادة حرة وقراراً مستقلاً ومملوءاً بالكرامة ومسكوناً بالسيادة والانتماء إليها ومشحوناً بشحنات المقاومة لكل من ينال منها ويتطاول عليها.. وهذا ليس من باب التفاؤل أو الشطحات، بل من باب قراءة الواقع، والذي نراه كما قلنا في فلسطين التي استعصى على المحتل الغاصب تركيعها واستباحتها على النحو الذي يريد، وهي كذلك في العراق الذي ضرب أمثلة مشابهة في مقاومة قوى الاستكبار العالمي، ولم يمكنها من احتلال العراق والسيطرة عليه على النحو الذي يريد، فهي رغم أن عمرها من الغزو إلى اليوم قد وصل أربع سنوات فلم تتمكن من توفير الاستقرار للمنطقة التي اسموها «الخضراء » وهي لاتزيد عن كيلو مترات داخل بغداد حيث تدك المقاومة كل شبر يقف عليه محتل.