أيامنا العالمية كثيرة، وشعاراتها كبيرة بحجم معاناة الإنسانية،ولعل أكبر مافيها هو أنها تترجم عطف الدول الكبرى علينا نحن الشعوب المستضعفة،الفقيرة،المريضة،الأمية ،المظلومة.. والمحتلة أيضاً!! أمس وقفت الدول الكبرى تروج لاحتفالية اليوم العالمي لمكافحة الجوع ، فأعادوا إلى ذاكرتي كل مشاهد الجوع التي عاشها العراقيون في سنوات الحصار الاقتصادي الاثنتي عشرة التي فرضتها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها في العالمين الأوروبي والعربي .. مازالت أتذكر جيداً كيف كانت تجوب مدن العراق قوافل الأطفال الموتى، والحشود تزفهم بالتوابيت إلى المقابر.. واتذكر مئات الاف العراقيين الذين ماتوا في ريحانة شبابهم لأنهم لم يجدوا دواء لأمراض بسيطة يمر بها كل فرد في العالم.. واتذكر مئات الاف الأسر العراقية التي باعت قطع أثاثها واحدة تلو الأخرى وصارت تفترش الأرض الرطبة وتلتحف السماء، وتجوب القفار بحثاً عن حطب بعد أن كانت عزيزة كريمة لايجاريها إنسان على وجه الأرض بما تحظى به من رعاية وكرامة.. ذلك الحصار اللعين، وذلك الجوع الألعن مازال يفطر قلبي ألماً كلما مر به الذكر، لأن الجميع وقف يتفرج على شعبنا في العراق وهو يتجرع موته ببطء، ويفارق أحبته واحداً تلو الآخر،فيما بعض الأنظمة العربية كانت ترسل من يجمع من الأسواق كل مامن شانه أن يتحول إلى مصدر عون للشعب المحاصر بما في ذلك الحديدالخردة، والمواد البلاستيكية، وحتى عيدان الكبريت كي لايستمتع أطفالنا بلحظة دفء، أولقمة ساخنة. الذين يحكمون العراق اليوم هم أنفسهم الذين كانوا ينعمون بالرخاء في فنادق أمريكا وأوروبا عندما كان شعبنا يتجرع مرارة الجوع.. وهم أنفسهم الذين كانوا يلوكون بالمبادىء والمثل الأخلاقية، وشعارات وطنية لا حصر لها، كانت تتأجج بالحماس مع أضواء البارات اللندية الخافتة.. وهم أنفسهم من كان يتحدث عن جوعنا ومرضنا، وموتنا ، وبؤسنا عبر الفضائيات، وعلى واجهات الصحف من غير أن يجرؤ أيّ منهم على تأكيد وطنيته بعلبة حليب لطفل عراقي يشارف الموت..! في أكبر العواصم التي كانت تصنع قرارات تشديد الحصار على الشعب العراقي كانوا يتاجرون بجوعنا، وموتنا،وحرمان أطفالنا من أجل فقط شتم النظام، وترديد إشاعات المخابرات المركزية الأمريكية تمهيداً لبيعنا مجدداً في أسواق مجلس الأمن، والأمم المتحدة، ومرتزقة اللجان الدولية.. الذين يحكمون العراق اليوم لم يتذوقوا طعم مأساة شعبه حين كان العالم كله يطبق الحصار عليه.. ولم ينقذوا طفلاً يموت بين أكفهم جوعاً.. او ألماً من مرض لايجدون له الدواء.. وعندما عقدوا مؤتمرهم في لندن عرفنا جميعاً أن اتفاقية لبيع العراق وقعت في ذات المؤتمر.. وأن مأساتنا القادمة ألعن من أية مأساة تسبب بها الجوع لأنها مأساة سحق الكرامة.. وها نحن في مهاجر العالم نلوك غربتنا، ونغفو بأوجاعنا وهمومنا، ونجوع، ونتألم، ولانجرؤ على مجالسة الناس كي لايسرد أحد الجالسين مخازي زعماء عراق اليوم.. عراق الديمقراطية الأمريكية، وسماسرة بيع الشرف العراقي، والمتاجرين بالكرامة العراقية.. اليوم،وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الجوع نذكرهم من هنا.. إن جوعي الأمس كانوا أوفر حظاً، فجوعى اليوم يموتون جوعاً وبلا كرامة.. واذا كان ثمة من يقتل بالأمس تكتب لهم تهمة حتى وإن كانت ملفقة فقتلى اليوم بلاتهمة، ولاحتى ورقة يكتب عليها اتهام ملفق.. وإذا كان بالأمس لدينا جامعات يدعون أنها غير آمنه، فاليوم نحن بلا جامعات، ولامدارس، ولامستشفيات ، ولابيوت، ولاشوارع.. فكل شي مباح للإرهاب،وكل فرد معرض للقتل في أيه لحظة،وفي أي مكان وزمان..!! مضت أكثر من ثلاث سنوات على رحيل النظام الذي كانوا يتذرعون به بأنه البلاء والظلم من غير أن يخبرونا أي خبر أتوا به إلى العراق..كل شي مات في العراق.. حتى الذين كانوا يحقدون على صدام مات الحقد في صدورهم.. شيء واحد فقط ظل حيا هو إرادة العراقيين الأحرار الذين لن يغمض لهم جفن حتى يطيحوا بكل الأصنام الأمريكية التي حملتها طائرات الأباتشي إلى المنطقة الخضراء ببغداد.. وإن غد لناظره قريب.