عقد بمدينة الدوحةالقطرية الأحد المنصرم الملتقى الثاني للديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي، ويأتي انعقاد هذا الملتقى الفكري الديمقراطي والأمة العربية تتنازعها سلسلة من الأورام والحالات المرضية.. وهذه الحالات إما مزمنة بحكم الموروث الناتج عن انكفائنا المتزمت ونظرتنا القاصرة والجائرة تجاه الآخرين.. وإما أنها حالة شمولية قاهرة قامعة لأي صوت من أصوات الشعب.. وإما انها قد تكون حالة ذاتية خاصة بطبيعة التكوين «السيكولوجي» لنفسياتنا المجبولة على حب التسلط والهيمنة والاستئثار بكل شيء.. وليس هذا وحسب، وانما بلي العرب والمسلمون بأصحاب «الفتاوى» الذين تكاثروا خلال الثلاثين عاماً المنصرمة بشكل باتوا معه يشكلون لهذه الأمة غثاءً مدمراً واذا لم ينتبه إليهم ذوو الفكر والفقه في أمور الدنيا والدين، فإنهم سيوصلون حال وأوضاع الأمة إلى ماهو أخطر وأدنى مما نحن فيه من شتات وتناحر واختلاف، ولقد أحسنت صنعاً هذه الدولة الفتية والصغيرة في مساحتها الكبيرة في طموحها وأفقها وقيمها الإنسانية.. أقول لقد أحسنت دولة قطر الشقيقة بإبراز هذا المنبر الإعلامي الحر إلى حيز الوجود.«قناة الجزيرة» ليكون منارة لكل شعوب العالمين العربي والإسلامي ، ولكل الشعوب التواقة للحرية والانعتاق .. بل إنني لا أبالغ إذا قلت أن قنوات الجزيرة باتت أشبه ما تكون بالمنظومة المتكاملة لمشفى متنقل يتجول في أقطار العالم المختلفة، للقيام بجملة من المهام الصحية لمعالجة علل وأمراض أنظمة الحكم في الوطن العربي والإسلامي.. فالعمل الصحفي والإعلامي بقنوات هذه المحطة لا يكتفي بالمعاينة السطحية لأية حالة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية وحسب، وانما يخضع كل حالة من الحالات إلى التشخيص المقرون بتسليط أشعة الفحص على مواطن المرض والعلل.. ومن ثم فإن المزيد من التحري والنقاش المستفيض لجوانب أية حالة يكون بمثابة المجارحة الصحيحة والتطهير النقي الذي لا يسمح بأي حال من الأحوال بقاء أو اختفاء الجراثيم للعودة مرة أخرى، لاتساع نطاق الجرح، ومن ثم تكون وصفة العلاج المحدد بمقدار ونوع الطبيب الماهر المقتدر.. فالكتاب والمحررون والمحللون في كافة الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهذه القنوات أهم الأطباء والجراحين وأصحاب المختبرات الفنية المختلفة فإليهم التحية والدعوة بالتوفيق والعمل المتواصل على هذا الدرب الشائك والطويل، درب كل أحرار العالم.. وقبل أن أسترسل في موضوع ملتقى الديمقراطية أود أن أنوه إلى أن ما أشرت إليه بمستهل كلامي بشأن «الفتاوى» فإنني قد كنت أقصد تلك الفتوى التي صدرت مؤخراً عن أحد علماء الأزهر تجيز للمرأة العاملة أو غيرها إرضاع الرجل الراشد وقد أصدر عقب ذلك الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر قراراً يقضي بوقف الدكتور عزت عطية عن العمل وإحالته للتحقيق بهذا الشأن. تجدر الاشارة هنا إلى أن هناك جملة من الفتاوى قد صدرت خلال هذا العام من عدد من علماء دين وعلى رأسهم فتوى نسبت للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية مايستغربه العديد من المراقبين انتشار مثل هذه الفتاوى في بلد كمصر وهي التي تزخر بالمئات من القضاة الأكفاء والتاريخ الطويل والسمعة الحميدة، إلى جانب المئات من المفكرين والفقهاء المتمكنين خصوصاً إذا علمنا أن هذه الفتاوى غير ملزمة لأية جهة من الجهات المسؤولة.. ولاسيما عندما يكون هذا البلد أو ذاك من البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية التي بها العديد من الهيئات والمؤسسات المعنية بالشئون الدستورية والشئون القضائية والاقتصادية وكافة شئون الحياة وجوانبهاالمختلفة. ولربما كانت الحاجة إلى أمثال هؤلاء عندما كانت الدولة ونظامها غائباً عن البلاد العربية ولعل الدولة المصرية قد كانت أولى الدول العربية التي تقام على أسس حديثة، والنظام البرلماني بدأ فيها بالقرن التاسع عشر فالمفروض أن يتبع أي افتاء أما وزارة العدل أو الجهاز القضائي. وعود على بدء للموضوع الذي استهللت الحديث عنه وهو الملتقى الديمقراطي بالدوحة.. وماذا عساني أن أقول عنه أو عن العشرات من الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي تعقد بهذه الدولة النشطة والمتفاعلة مع قضايا الوطن العربي.. ففي الجلسة الافتتاحية لهذا الملتقى تحدث ثلاثة من الشخصيات العربية ذات الاهتمام والنشاط الإنساني وهم د/سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون للدراسات في مصر والإمام المهدي الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني ثم الدكتور عزيز صدقي رئيس وزراء مصر في فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر لمصر، فلقد كان حديث الرجل عن الأمة العربية مليء بالمرارة والألم والحسرة على ما آلت اليه الأمة وقال: «لقد جئت إلى منصبي في ستينيات القرن المنصرم وموجات الاستخفاف منصبة علي من كل جهة وجانب تنكر علي عدم قدرتي على صنع أي شيء يذكر للصناعة والزراعة بمصر، ورغم كل الظروف الصعبة استطعنا تحقيق قاعدة اقتصادية لمصر.. إلا أنه من المؤسف أن الأمة العربية بكاملها وبكل ما أوتيت من هذه الثروات واقفة «محلك سر» وقال: «انه لمن المؤسف والمخجل أن يكون السودان به أكثر من مليون فدان من الأرض ليست صالحة للزراعة وحسب وإنما هي جاهزة للزراعة الفورية.. هذا في الوقت الذي يستورد الوطن العربي كامل احتياجاته من الموارد الضرورية فالسودان أرضه صالحة لزراعة قصب السكر بما يكفي ويغطي حاجة الوطن العربي وكل افريقيا.. وهناك العديد من الأراضي بالعديد من أقطار الوطن العربي.. فلماذا هذا الإحجام والتردد لاستثمار ما يمكن استثماره بهذه الأقطار؟؟ هذا وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور عزيز صدقي كان قد ثمن تثميناً عالياً دور دولة قطر وما تقوم به من تنوير لأبناء الأمة العربية تجاه مجمل القضايا والهموم العربية والإسلامية.. الدكتور الصادق المهدي تحدث حديثاً جميلآً وهادفاً عن الديمقراطية مندداً بالأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية.. واستنكر في سياق حديثه الخلط بين الدين والسياسية ويفضل أن يبقى الدين بمنأى عن السياسة والسياسيين.. وكان آخر المتحدثين من المنصة هو الدكتور سعدالدين إبراهيم الذي طلب من الحضور بالقاعة التحية الحارة لشعب وحكومة «موريتانية» هذه الدولة التي ضربت المثل الرائع في تجسيد المعنى الحقيقي للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. مداخلات الحضور الجدير ذكره هنا أن جمهور الحضور كان من كبار الأكاديميين والمثقفين وقادة منظمات المجتمع المدني ورجال الفكر من أصحاب مراكز الدراسات والأحزاب السياسية المختلفة. كانت مداخلات المشاركين غنية وهادفة فالبعض رأى أنه من الأجدى لأي إصلاح سياسي وديمقراطي في الوطن العربي أن تتضمن إحدى التوصيات للمؤتمر بإلزام الحكومات العربية بضرورة سن تشريع قانوني ينص على عملية الإصلاح حتى لا نبقى نكرر التوصيات من مؤتمر إلى آخر.. وقبل أن أواصل ما تضمنته مداخلات الحضور، لابد لي من الإشارة إلى أن المداخلات كانت تتولى استعراضها ورشة عمل مكونة من عدد من المشاركين لتلخص أهم وأبرز ما جاء بها لتقدم بالتالي إلى المؤتمر بشكل تقرير ومن ذلك الحفاظ على النسيج الوطني لأي مجتمع بتحقيق حق المواطنة.. بحيث يكون التركيز على مفهوم المواطنة أكثر من مفهوم الأقليات وينبغي على الإدارة الديمقراطية الأخذ بالتنوع وبحيث تكون المواطنة مبنية على قواعد حقوقية تحقق وتتيح الفرص للجميع.. وفي نفس التقرير وردت توصية أخرى تتضمن المطالبة بوضع هيكل فكري متجدد للدين وهناك مداخلة أخرى تضمنت ضرورة أن تنص بمختلف الدساتير والقوانين للدول العربية على أن لا يجوز لأي حاكم عربي أن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية أكثر من فترتين، وكذلك يسري مثل هذا الأمر على منظمات المجتمع المدني. وهناك مداخلة إحدى السيدات المشاركات التي تضمنت إحداث ثورة بالمناهج الدراسية للتربية والتعليم وغرس قيم ومبادئ الديمقراطية والمواطنة المتساوية في نفوس ووجدان النشء في وقت مبكر من أعمارهم.. ومداخلة أخرى أيضاً تضمنت الرعاية والعناية والدعم لمنظمات المجتمع المدني. «منظمات المجتمع المدني الوفية» ، كما جاء في مداخلته وهو يعني ويقصد كما فهمت الموضوعية التي لاتعارض فقط للمعارضة، وأنما تعارض الخطأ أينما كان.. وهذه المؤسسات لو دعمت وأعطي لها كامل الفرص والحقوق فإنها ستدفع بعجلة الديمقراطية خطوات إلى الأمام وستدفع بعملية الإصلاح أيضاً.. وطالب صاحب المداخلة لو أن مثل هذه الملتقيات والمؤتمرات تكون بمشاركة جامعة الدول العربية حتى يكون لأية توصيات أثر ووقع لدى أصحاب القرار بالدول العربية وعلى أن تكون هذه الملتقيات في كل عام.. حتى نسارع الخطى ونعرف إلى أي مدى وصلت توصياتنا. والحقيقة أن المشاركين قد استعرضوا وتناولوا خلال ثلاثة أيام بدولة قطر كافة أوضاع الأمة وأمراضها المختلفة واستطاعوا تشخيص حالاتها المتعددة وفي نفس الوقت وصفوا لها العلاجات إلا أن واضعي تلك الوصفات قد تباينوا في وصفاتهم ومداخلاتهم فالوصفات السلفية ما تزال تتمسك بالنظر إلى الوراء في وقت لم يعد يسعفنا الوقت، بالتغني بالماضي التليد وما زلنا مفتونين بالسيف والرمح في وقت أخذ الإنسان فيه يبحث عن موطن له في كواكب أخرى من هذا الكون. بعض المداخلات أرادت أسلمة مفهوم الديمقراطية في حين رأى بعض آخر أن هذا ضحك على الذقون في أن يحشر الدين بكل صغيرة وكبيرة فهل العرب بحاجة لإعادة ذلك الشعار الذي رفع في فترات من تاريخ الشعب المصري فسادتهم حالة من المحبة والأخوة والرفاة.. إلى أن تغيرت الأمور وتبدلت لشعارات أخرى، فأفسدت عليهم الحياة.. وانقلبت رأساً على عقب إلى عداء وقطيعة وذلك الشعار الذي أعنيه هو: «الدين لله والوطن للجميع» بدون أوصياء أو كهان وبمعنى من المعاني الاعتراف بالآخر بصرف النظر عن معتقده الديني، وما إذا كان من أتباع وأصحاب الأديان الثلاثة أم لا، ففي هذا العالم خصوصاً في جنوب شرق آسيا العديد من الشعوب التي لا تتبع الأديان السماوية الثلاثة :الإسلام والمسيحية واليهودية وأغلبهم يتبع الديانة البوذية، وهذه الديانة رغم أنها غير سماوية ولم يرد ذكرها بأي من الكتب المنزلة إلى أنبياء الله محمد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلاة والتسليم.. الا أن تعاليمها ونصوصها تدعو إلى الحق والعدل والخير والمساواة بين الناس ورفض كل أشكال الظلم، كما أن معظم تلك الشعوب التي تدين بالبوذية أو الهندوسية، أو غيرها شعوب طيبة ومسالمة، ولعل الكثير منا قد تعامل مع أصحاب تلك الديانات وعرف مدى حسن أخلاقها والتعامل معها بكل أمانة وصدق.. ولقد وفقت القيادات الماليزية أيما توفيق عندما ساست شعب ماليزيا المكون من خليط من تلك الديانات بما فيها مسلمين واستطاعت أن تنهض بماليزيا تلك النهضة الفريدة من نوعها بالمنطقة.. وخصوصاً بعد ذوبان التعصب العرقي بينهم، وجعلت القاسم المشترك بينهم المواطنة المتساوية بالحقوق والواجبات بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى.. لهذا أرى أن الشعب المصري بحاجة إلى عودة شعاره الوطني الذي ذابت في إطاره وتحت لوائه كل النعرات الطائفية والمذهبية والتي أخذت منذ سنوات تطل برأسها من جديد تهدد وحدة الشعب المصري الذي عرفت مصريته من خلال «قبطيته» عبر التاريخ..وعلى كل الأحوال فإننا نحيّي من جديد دولة قطر التي كانت سباقة للتصدي لأمراض الأمة العربية وكان أبرز هذا التصدي عقد هذا الملتقى الذي وقف وتصدى لأهم وأبرز المعضلات والمشاكل التي تعاني منها الأمة.. جدير بالإشارة هنا والذكر أن عقد هذا الملتقى قد كان تحت رعاية حاكم البلاد وبحضور سمو الأميرة موزة بنت ناصر حرم أمير البلاد.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الاهتمام والحرص على شئون العرب والمسلمين وانتشال الأمة من واقعها المزري والمرير وبالله التوفيق وحسن المئآب.