الديمقراطية العربية ليست كأية ديمقراطية أخرى لأنها وليدة بيئة مازالت تنزف جراح ما أحدثته بها حقب الاحتلال، والمؤامرات التي تبنتها ماتسمى اليوم ب «دول الديمقراطيات الراسخة»! في اليمن لم يستطع أحد الحديث عن التحول إلى الديمقراطية إلاَّ بعد أن أزاح شعبنا عن كاهله جبروت واحدة من الدول التي تقف في صدارة قائمة (دول الديمقراطيات الراسخة) - بريطانيا - وفي الزمن الذي كانت صاحبة الجلالة تزدهي بأنها تحكم باسم الديمقراطية. وحتى بعد أن أجبرت اليمن الاحتلال البريطاني على الرحيل لم تكن قادرة على الخوض في حديث التحولات الديمقراطية، لأن «الديمقراطيون البريطانيون» خلفوا وراءهم بلداً مشطراً إلى دولتين رغم أنهم دخلوه عام 1839م وهو دولة واحدة.. ومن هنا كان على اليمنيين العودة إلى الحالة الطبيعية (الوحدوية) باعتبارها المناخ الوحيد الذي تصنع به تجربتها الديمقراطية. رغم أن العقد والنصف الماضي شهد ولادة العديد من التجارب الديمقراطية العربية، إلا أنها تسمى (ديمقراطية ناشئة)، ومن غير المتوقع أن تصمد طويلاً إذا ماواجهت أية تحديات كبيرة، ذلك لأنها تجارب تتعاطى مع الواقع، وتتفادى القفز فوقه لئلا تتحول إلى فوضى، وفتن، وعامل طمس لمعالم الهوية العربية الإسلامية التي تمثل العمود الفقري لقيام الأمة وبقائها الطويل ضمن أطرها الأخلاقية. أمس احتضنت صنعاء لقاءً تحضيرياً لبلورة ميثاق عربي للديمقراطية، وتأسيس الحركة العربية للديمقراطية التي اجتمع لها مفكرون ومثقفون من حوالي (15) بلداً عربياً - جميعهم يحملون واقعاً مماثلاً، وتاريخاً مشابهاً لبعضه البعض، وهموماً لاتغيب عن رؤوسهم إلا عندما تجتاحها هموماً أعظم، وبلاد أكبر.. لكنهم مازالوا يحاولون تغيير الواقع، وتبديل بعض معادلاته أملاً في الوصول مستقبلاً إلى مخرجات مختلفة. تبدو الفكرة جيدة أن يتطلع العرب إلى ديمقراطية بمواصفاتهم الخاصة، وبقواسمهم المشتركة حيث إن التقلبات السياسية المفاجئة التي زخر بها العالم العربي جعلت الأنظمة العربية قلقة من الجديد، ومن أية تحولات طارئة.. ليس هذا فقط بل إن تجارب العرب مع (دول الديمقراطيات الراسخة) التي تروج للعصر الديمقراطي الشرق أوسطي جعل مكوناتها تتهيب النوايا، كون هذه الدول لم تفلح حتى اليوم في استعادة الثقة العربية بها .. كما أن مؤسساتها الداعمة للديمقراطية في البلدان العربية مازالت تتعامل داخل بيئة نشاطها بكثير من الريبة، وتتجاوز واقع مجتمعاتها، وتتعدى على ثقافتها، وفي كثير من الأحيان تنسى نفسها وتتصرف كما لو أنها في وطنها الأم. بطبيعة الحال لم يكن ذلك مبرراً للتنصل من مسئوليات التحول الديمقراطي لذلك كان التفكير بإيجاد مواثيق آمنة، وصيغ محددة لممارسة الديمقراطية - بمواصفات عربية - هو المنطق الأجدر بتشجيع العديد من الحكومات العربية بإعادة النظر في موقفها من الانفتاح الديمقراطي.. وبتقديري أن هذه الخصوصية التي ستمنح للديمقراطية العربية من خلال ميثاقها الذي من المؤمل إعلانه اليوم لن يكون فقط عاملاً لانتشار الديمقراطية بل أيضاً للارتقاء بممارستها، ولخلق نسق عربي يدفع الحكومات إلى مزيد من التماثل بسياساتها ومشاريعها الإصلاحية السياسية، وليس مستبعداً من أن يتحول إلى أحد صمامات أمنها القومي. ولكن يبقى هناك أيضاً تساؤل: ما الذي يجعل المرء يثق بأن هذه الخطوة لن تكون أداة جديدة لتصدير ممارسات، ومشاريع دولية جديدة إلى المنطقة في إطار المشروع الشرق أوسطي الجديد جداً!؟ لاشك أنه ليس هناك من بوسعه تقديم الضمانات، فالديمقراطية الأمريكية لم تمنع البيت الأبيض من ممارسة أبشع الانتهاكات الإنسانية في تاريخ البشرية في المناطق التي أرسل جيوشه إليها.. لكن في الجانب الآخر كانت ديمقراطية أوروبا إحدى عوامل وحدتها ونهضتها.. وديمقراطية الهند لم تمسخ تراثها الثقافي.. فالمهم بالمسألة كلها هو أن يقود التحولات الديمقراطية ذوو الخبرة، ومفكرو الأمة ومثقفوها وليس القادرين على الصراخ فقط، أو من يمتلكون جرأة الشتم في الشوارع تحت مظلة الديمقراطية.