الأسواق التجارية في شتى أرجاء العالم محكومة بالمنافسة «العرض والطلب» وبالقوانين التجارية، وبالأخلاق. ومتى ما اختل أحد هذه المعايير اختل توازن السوق معه. وحدثت الأزمات التموينية والسعرية. عندما بدأت الأزمة السعرية في اليمن في رمضان الماضي تقريباً أو قبله بقليل اختصرت وزارة التجارة طريق الإجابة عن السبب وقال الوزير آنذاك قبل ان ينبس أي تاجر بكلمة أن هناك ارتفاع أسعار عالمي، ومن يومها والمسؤولون والتجار يرددون نفس الكلام، ولم يكلف أحد خاطره عناء البحث عن السبب الحقيقي، أو معالجات جادة للأزمة، وإذا نحن اليوم بمسيرات تجوب مدننا، ويستغلها الانتهازيون لزعزعة استقرار البلد، وترويج خطابهم الحزبي، ومآربهم الأنانية. منذ أول شهر لارتفاع الأسعار كتبنا في «الجمهورية» حول الأزمة، وتقاربت آراؤنا في شبه إجماع على أن الأزمة سببها الاحتكار التجاري وانهيار أخلاقيات التجارة.. وسببها أيضاً ان الحكومة خاضت تجربة الانفتاح الاقتصادي «الاقتصاد الحر» من غير ان تترك لنفسها أي قدر من التدخل الطارئ في السوق كأحد أطراف اللعبة التجارية، وبالتالي فإنها عندما حاول التجار ابتزاز السوق، والتلاعب بقوت المواطن، وقفت بلا حول ولا قوة دون ان تملك كيس دقيق واحد تضارب به في السوق. لا شك ان الخيار الوحيد الذي كان أمام الحكومة هو ان تفاوض التجار.. وكان متوقعاً فشل المفاوضات لأن احد طرفي التفاوض كانت أخلاقه تسمح له بالتفرج على أبناء شعبه وهم يتضورون جوعاً فيما هو تتضاعف أرباحه، كما كان مؤكداً ان يفشل الحوار مع التجار لأن الحكومة كانت في موقف المحارب الشجاع الذي نفذت ذخيرته في ساحة معركة مع من لا يرحم خاصة بعد ان كشف النقاب عن فضيحة بيع مخزون الأمن الغذائي القومي لليمن الذي كان في صوامع عدن، دون علم المؤسسة الاقتصادية، وتأكد الجميع ان لا أمل للحكومة بوصول المدد !! أمس الأول أقدمت الحكومة على القرار الصائب وانتعشت نفوس اليمنيين بالآمال مجدداً، حيث إن دخول الحكومة عبر المؤسسة الاقتصادية كطرف في السوق من شأنه ان يعيد التوازن للأسعار، ويكسر الاحتكار، ويسقط كل المراهنات على استخدام لقمة المواطن كورقة حزبية لضرب وحدة اليمن وأمنها واستقرارها. ولكن ما ازعجنا في قرار الحكومة هو نيتها في الجلوس مجدداً إلى طاولة الحوار والتفاوض مع التجار، فعلى ما يبدو ان الحكومة نسيت ان التجار اعلنوا الإضراب، مقابل إلغاء الضرائب الجمركية عن بعض السلع الغذائية، وحين نفذت الحكومة المطالب زادت الأسعار ارتفاعاً، والتهب السوق غلاءً، أليس الأولى في هذه المرحلة بعد أن فشل قرار إلغاء الضرائب ان تعيد الحكومة النظر في قرارها، وتستفيد من الضرائب الجمركية في تخصيصها لشراء مواد غذائية عبر مؤسساتها والدخول كمنافس على قاعدة العرض والطلب !؟ فإذا كان المواطن غير مستفيد من الامتيازات الممنوحة للتجار، وخزينة الدولة لم تستفد فما هو مبرر بقاء هذه الامتيازات !؟ الأمر الآخر الذي ينبغي على الحكومة وضعه في أولويات معالجاتها للغلاء هو أن لا تتفاوض مع التجار حتى يصبح لها ثقل في السوق، وحينئذ سيطلب التجار التفاوض، وهم من سيقف على باب رئاسة الوزراء. خاصة وان الحكومة تمتلك رأس المال القادر على إغراق السوق اليمني بالسلع.. كما على الحكومة ان لا تغفل كيد السماسرة في الجهات المعنية الذين روجوا لإشاعة «الارتفاع العالمي للأسعار» !