الحوار هو أنسب الحلول وأفضلها، وبه يوصي كل عقلاء الدنيا لتجاوز خلافٍ ما بين طرفين أو أكثر، غير أن هذه الأفضلية لم تشفع له في خلافات كثيرة حقيقية ومفتعلة، فثمة من يوصي غيره بالحوار أو التحاور وينهى نفسه عنه حين يقتضي الأمر ذلك. تناقض من هذا النوع لم يعد مفهوماً إلا من باب أن الرافض للحوار الكافر به، قد آمن بحلول أخرى تلك التي يرفضها العقلاء في كل زمن ومكان وهي ليست حلولاً وإنما تعقيدات لأسباب الخلاف لأن من لايبحث عن حلول ولايساعد عليها حين يستطيع ذلك إنما يسعى لتعقيد المشكلة والدفع بالأمور إلى دائرة اللاحلول،ومن المؤكد أن هذا السعي ليس بريئاً ولا مجانياً مهما ادّعى صاحبه حرصاً على الجميع وزايد على الناس فيما يدّعي ومهما أظهر محاسنه في أقواله فإن الأفعال تفضحه دوماً. الحوار لايُرفض جملة وتفصيلاً مهما كانت المشكلة معقدة أو بدت على أنها كذلك إلا أن يكون الرافض قد قطع على نفسه عهداً أن لايساعد على حلٍ وأن يبقى منغّصاً لكل الحلول ومعقداً لكل مشكلة قائمة مفتعلاً للمزيد منها، أو يكون قد قطع هذا العهد لغيره، وفي الحالتين لامجال لتبرئة الموقف من أهداف دنيئة وأثمان حقيرة. عبث هذا الذي يحدث في الساحة.. ففي حين نقرأ ونسمع من أطراف رفض الحوار أن الطرف الآخر يرفض الاعتراف بالمشكلة «دون تحديد لماهية هذه المشكلة»، وحين دعا هذا الطرف للحوار كان الرفض جاهزاً.. كيف يفهم هؤلاء الدعوة للحوار والتشاور والتفاهم وما إلى ذلك من المصطلحات من نفس المعنى؟ وكيف يفهم هؤلاء الحوار ذاته؟؟ لانريد أن نجرّم المواقف بصورة نهائية فثمة أمل أن يراجع الجميع مواقفهم خدمة للأهداف النظيفة المعلنة، ونفياً لأهداف لم تعلن صراحة ،لأن الأهداف القبيحة لا تعلن دوماً، ولأن الأهداف القبيحة تحرص على أن ترتدي اللباس النظيف بما يوحي أنها كذلك في حين أن هذا اللباس الظاهر يخفي أوساخاً وقبحاً لابد وأن تطفو على الظاهر مع مرور الوقت. لقد أوصل التناقض بعضاً من أطراف رفض الحوار إلى حد العمى التام فتراهم يمارسون مايشكون منه ويتذمّرون.. ففي حين أنهم يتّهمون عدواً وهمياً بالتضييق على حرياتهم ويشكون من التهديد والوعيد إذ بهم يفعلون ذات الشيء بل وأسوأ من ذلك. لقد ضاقوا ذرعاً وهم يقرأون رأياً لم تطب لهم قراءته وفي حين أن ماينشر على صفحاتهم في صحفهم من قبح وتجريح وفي صحف لها نفس النهج قد تعدّى كل حدود الأدب والأخلاق والمبادئ السامية وليس آخر القبح وآخر المرض ذلك المقال الذي يتحدث عن حق تقرير المصير! .. وهو بالأصح يتحدث عن حق ممارسة السفاهة في الرأي والكتابة ومع هذا لم يحرّك هذا النوع من الكتابة ساكناً عند أطراف اللقاء المختلف والمتناقض. أجزم أن أطراف رفض الحوار لايبحثون عن حلول لما ظهر من مشاكل ، وأجزم أن المشاكل التي يعاني منها المواطن لاتعني لهم شيئاً وإن قالوا إنها في مقدمة اهتماماتهم وإنهم لاينامون من حزنهم على جائع لم يحصل على قوت يومه.. وإن قالوا أكثر من هذا، لأن الحاصل اليوم يكشف كل زيف، ويكشف حقيقة أنهم لايبحثون سوى عن مصالحهم، ومطالبهم كلها هي المشاكل التي يتحدثون عنها ويسوّقونها على السامع والقارئ والمشاهد.. ولو لم تكن هذه هي مشاكلهم فقط لذهبوا إلى كل مكان يستدعي حضورهم من أجل مناقشة قضية عامة تهم الجميع أو مشكلة يكون في حلها مصلحة عامة، لكن هذه النماذج من أصحاب المصالح قد جرى استنساخها في أكثر من بلد عربي ويؤسفني أن أقول هذا لكنها الحقيقة التي ستكشف عنها الأيام القادمات ولانتمنى أن تصدق في بلادنا وقد صدقت في مواضع أخرى...!!