عرفت المستشرق الروماني الشاب «جورجي جريجوري» في ذروة التحضير لحرب عاصفة الصحراء مطلع عام 1990م ومنذ أول يوم لمعرفتي به لمست درجة استشعاره بعبث مايجري، بل درجة غوصه في استشراف المستقبل المظلم الذي سيحيق بالبشرية، وإلى ذلك علمت يقيناً بأنه يشتغل منذ سنوات طويلة على ترجمة القرآن الكريم كاملاً إلى الرومانية، وهنا ألخص رؤيته في التعامل مع هذا العمل غير المسبوق رومانياً: ? لجأ «جريجوري» بداية إلى دراسة اللغة العربية في جامعة بوخارست ثم بدأ بقراءة القرآن الكريم عبر الترجمات التفسيرية الفرنسية والانجليزية، ثم واصل مشوار البحث عن طريق رسالة الدكتوراة التي كتبها وكانت بعنوان لافت «إشكاليات ترجمة القرآن إلى اللغة الرومانية» وبالتوازي مع كل ذلك كان عليه أن يقرأ تفسير القرآن الكريم من منابعه العربية الإسلامية، فقرأ الطبري والزمخشري والبيضاوي، وآخرين وبالتوازي مع كل ذلك كان يضع نصب عينيه الانفلات من الترجمات التفسيرية، وعدم الوقوع في فخ الميتافيزيقا المسيحية التاريخية، وعدم الاستسلام للمنهج العلمي الابستمولوجي الصرف. ? تلك المسيرة الطويلة من البحث وتقليب الأوراق والذائقة خلال 15 عاماً أفضت به إلى إطلاق نسخته الأولى غير المسبوقة في ترجمة القرآن الكريم كاملاً إلى اللغة الرومانية، موجهاً خطابه لأكثر من عشرين مليون روماني مقيمين في بلادهم وبضعة ملايين منتشرين في العالم الواسع، ومن المحزن الإشارة هنا إلى أن جريجوري اضطر إلى إطلاق نسخته بطباعة شعبية متواضعة ولم يجد حتى اللحظة من يرتقي بتلك النسخة إلى مستوى الإصدار الطباعي الذي يليق بالقرآن الكريم، بالرغم من أنه عرض ذلك مراراً وتكراراً محبة في الإسلام والعرب، ولكن لا حياة لمن تنادي. ? تعتبر ترجمة جريجوري للقرآن الكريم في نسخته الرومانية حالة مفارقة تماماً لكل الترجمات الأوروبية، فقد سعى بكل دأب لاستبدال التفسير الشكلاني بالتماهي الإيجابي مع النص ذوقاً واستسباراً مما جعله يفرد قاموساً موازياً للمصطلحات القرآنية، مدركاً أن من المستحيل ترجمة بعض المفاهيم القرآنية في كلمة واحدة موازية، مثل مفاهيم ومعاني كلمات: الجهاد، الاستشهاد، القيام، القعود، الصراط، اللوح..الخ، فكان عليه أن يكتب تلك الكلمات باللغة العربية في المتن، وأن يفرد لها هامشاً تفسيرياً واسعاً تمكن القارئ الروماني من الاقتراب من مغزى ودلالة تلك المفردات والمفاهيم القرآنية. ? ولمزيد من توكيد هذه الحقيقة الأزلية المرتبطة بلغة الوحي والنزول، كتب جريجوري نص الفاتحة باللغة العربية في غلاف الترجمة، في إشارة دالة إلى المغزى العميق لضرورة معرفة القرآن واستكناه أغواره عبر لغة الوحي، وفي ذلك اعتراف ضمني بأن أية ترجمة للقرآن الكريم لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى النص القرآني في مبناه ومعناه.