التاريخ أثبت تهافت المقولات والممارسات الصادرة عن تعميم النموذج الواحد.. فقد فشلت الأمميات الاشتراكية لأنها قبعت في أساس النموذج الواحد، وفشل الاستعمار لأنه أراد الغاء الآخر، وفشلت النماذج القومية المتعصبة لأنها لم تمسك بحكمة التعايش والتثاقف مع الآخر الإنساني، وفشلت المركزيات السياسية والإدارية والمالية الشديدة لأنها لم تحترم التنوع والمباريات الحرة بين المصالح والرؤى المختلفة، والآن فإن النماذج التي يُسوّق لها بوصفها اكسير حياة وسبباً للولوج إلى جنة النظام الديمقراطي تواجه ذات الفشل الذريع، فمنذ البريسترويكا الغور باتشوفية الحالمة إلى تجربة يلتسن الأكثر تماهياً وبالمعنى السلبي مع الآخر الغربي.. منذ تلك الأيام أثبتت تجارب «التحول بالصدمة» في روسيا وبلغاريا ورومانيا وبولندا أنها لم تفلح سوى في زيادة عذابات البشر وفتح الطريق لمصائب جديدة. كان التحول الذي باشرته البلدان الاشتراكية الأوروبية منافياً لتقاليد العقود المركزية وبصورة مخلة بالتوازن.. لذلك كان من الطبيعي أن يكون تفاعل تلك البلدان مع النموذج الغربي تفاعلاً مُستلباً «بضم الميم وفتح التاء».. وأن تكون بدورها ملحقة بالنموذج الغربي دونما امتلاك لذات المقدمات التاريخية والاقتصادية وهو ما أدى إلى المفارقة الماثلة. لا تحتاج البشرية إلى إعادة تدوير البؤس والشقاء كما تفعل الإدارة الحالية في الولاياتالمتحدة والتي لم تعد تكتفي بروشتات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بل أصبحت تقدم وصفات جاهزة بالنموذج السياسي الوحيد والأوحد متناسية أن ما يصلح هنا لا يصلح هناك، وأن شروط التاريخ ونواميسه المكانية والزمانية أقوى من إرادة القوة والمال. ليس لدى عراب الإدارة الأمريكية وضوح فيما يريد فهو يدعو إلى احترام حقوق البشر فيما يدعم إرهاب الدولة في اسرائيل، وهو يدعو إلى تعميم الشفافية السياسية فيما يتقبل الأوضاع الاوتوقراطية طالما توفرت المصالح، وهو يرشد للمجتمع الألفي الجديد فيما يرفض حكمة الحكماء من الحلفاء التاريخيين في أوروبا. إنها محنة العقل الواحد والنموذج الأوحد الذي كان ومازال رسماً واضحاً وعلامة جارحة في تاريخ الإنسانية. في هذا الصدد لا مفر من الإمساك بالكيمياء السحرية للتنوع في إطار الخصوصية أو للتفاعل الخلاق بين ما هو محلي وما هو إنساني. في العالم العربي نحن بحاجة ماسة إلى حالة من التماهي الإيجابي مع الآخر وإن كان بوزن اليمين الأمريكي.. ولا نحتاج بالمقابل إلى التماهي السلبي ولو مع الخيرين في هذا الكون. إننا بحاجة إلى إعادة النظر في تلك الشروط التي استنفدت قابليتها في المستقبل، كما نحتاج إلى محاصرة حصاراتنا برؤية تقرأ الماضي عمقياً وترى المستقبل بعين الرائي الواثق من حكمة التاريخ لا المهرول وراء المشهد الراهن بسلبياته التي تزكم الأنوف