مع أن جميع القوى السياسية تتحدث عن «الشارع»، وتراهن على قدرتها في تحريكه، وتساوم - أيضاً - خلف الكواليس باسمه، إلاّ أنني ما زلت على يقين بأن «الشارع» اليمني صعب المراس، ويستحيل لأحدٍ ترويضه. كثير من المراقبين السياسيين غير اليمنيين يحملون اعتقاداً قوياً بأن المعارضة اليمنية قادمة على انتكاسة جديدة، تفوق نكسة الانتخابات الرئاسية الأخيرة.. لأنهم يعتقدون أن المعارضة لن تستطيع الصمود طويلاً أمام رهان «الشارع» الوطني، لأنها أصلاً ليست بالثقل الذي حاولت أن «توهم» الرأي العام به بقصد التأثير على معنوياته إيجاباً، وعلى معنويات السلطة سلباً. خلال الأيام القليلة الماضية بدا لي هذا الرأي صائباً إلى حد كبير .. فالمهرجان الذي نظمته أحزاب المشترك بالتعاون مع جمعيات المتقاعدين في الضالع - منطقة «حرير» - كان معولاً عليه الإعلان عن تدشين مرحلة جديدة من «النضال السلمي» - على حد تصريحات المسئولين - لكن لم يحضره سوى أقل من خمسمائة شخص، نصفهم من الفتيان والشباب اليافع.. كما أن اعتصام يوم أمس السبت الذي أعلن عن موعده في مهرجان «حرير» لم يحضره سوى خمسين شخصاً تقريباً لا أكثر .. لذلك خجلت جميع وسائل إعلام المعارضة عن نقل خبر إقامة اعتصام. وفي نفس اليوم الذي تراجع فيه رصيد المعارضة من «الشارع» إلى خمسين شخصاً، كان الحزب الحاكم يقيم مهرجاناً جماهيرياً في أمانة العاصمة وصل تعداد المشاركين فيه إلى ما يقارب المليون شخص أو أقل بقليل..! حتى خيّل للمرء أن اليمن بلد خالٍ من الأحزاب المعارضة، يحركه المؤتمر الشعبي العام بالريموت كنترول من داخل غرفه في اللجنة الدائمة. ورغم كوني صحافياً، وقريباً من الحزب الحاكم إلاّ أنني لم أكن أعلم بوجود فعالية للمؤتمر، ولم أعرف متى تم تبليغ الناس بها، وفوجئت أن الشارع اليمني يموج خلف أعلام المؤتمر .. كما فوجئت المعارضة نفسها بقدرة المؤتمر على تحريك الشارع بدون إعلانات بالمواقع، والمساجد، وبدون تبليغ إلى البيوت..! ما أردت الوصول إليه هو أن المبالغة والغرور، والاستهانة بقدرات الآخر قد تضع الجميع أمام مفاجآت على أرض الواقع .. وحسابات غير التي نسمعها من قادة المعارضة عندما يخطبون في المهرجانات أو عندما يتحدثون عن قدراتهم في مقايل القات. المعارضة التي تحدثت قبل شهرين أو ثلاثة عن أرقام بعشرات الآلاف هي اليوم غير قادرة على جمع أكثر من خمسين شخصاً من أبناء الضالع.. وهذه مشكلة ليست في صالح اليمن إطلاقاً .. لأن غياب المعارضة القوية يعني انتكاسة ديمقراطية يتغيب عنها الرقيب الشعبي القادر على تقويم أداء السلطة! كما أن بعض المطالب الحقوقية لن تجد لها نصيراً قوياً يأخذ بيدها. إن مشكلة المعارضة مع «الشارع» هي أنها لم تتبن قضية وطنية عامة.. بل تبنت قضايا ذات طابع مناطقي أحياناً، أو سياسي وضع البلد كله أمام خطر تنامي النزعة الانفصالية التي وفرت المعارضة لدعاتها الحماية والتمويل الكافي لترويج أفكارها. اليوم لم يعد خطاب المعارضة مفهوماَ أو مقنعاً، فالجمعيات التي صنعتها تعلن صراحة أن مطلبها ليس حقوقياً كما كان يشيع المشترك وإنما انفصالي.. وكذلك جمعيات العاطلين .. وهما اليوم يمثلان خطراً يهدد مستقبل الوحدة اليمنية والسلم الاجتماعي.. وهذه الحقيقة التي أدركها الشارع هي التي جعلت الجماهير تنفر من فعاليات المعارضة، وتتخوف أن يأتيها المشترك بكيانات جديدة ذات أهداف طائفية أو عنصرية أو مذهبية تشعل الحرائق في البلد، ولا تجد من يطفئها.. لهذا يعتقد المراقبون أن المعارضة مقبلة على انتكاسة جديدة.