التعليم ليس ترفاً، ولا هو شيء فائض عن الحاجة، أو يكفينا منه اللّمَمْ أو ما تيسر، فإن كان يكفينا من الطعام أن نحصل على ما تيسر منه..ويكفينا أن نحصل على ماتواضع من الكساء ويكفينا مسكناً متواضعاً تدخله الشمس والهواء النقي، وتكفينا شربة ماء نقية دون إسراف أو تبذير..فإن العلم لايجب أن يكفينا منه القليل..بل نريد أن نحصل منه على الكثير.. والكثير في حقه قليل.. نريد أن يتعلم الأطفال تعليماً سليماً وراقياً بعيداً عن عقد أصحاب العقد..نريدهم أن يتعلموا الأخلاق وتنطلق قدراتهم العقلية إلى ساحة الإبداع.. نريد معلماً ومنهجاً يتجسد من وجودهما تنمية القدرات الروحية والجسدية وتنمية الوعي عند النشء بالمسئولية تجاه أنفسهم وزملائهم وجيرانهم وكل الناس من حولهم..نريد أن يتعلم أطفالنا معنى الحرية ومعنى حب العقيدة وحب التسامح والاخلاص والوفاء لله أولاً ثم الوطن.. نريدهم أن يتعلموا اللغة لغتهم «الأم» بالدرجة الأولى بعيداً عن هذا اللحن المزري وهذا المستوى الهابط للقراءة والكتابة والتعبير.. ألا ماأشد هذا البؤس وماأفدح هذا القبح عندما لايستطيع معلم في الابتدائية أن يعلم الصغار كيف ينطقون، لأن لسانه هو أشد عجمية من الهنود ومستواه اللغوي لايؤهله أن يقرأ سطراً واحداً بدون خطأ. هناك مدارس ضخمة ومهيبة قد تفنن المهندسون في وضع العقود والحجر المبخور وغيرها من الفنون المعمارية.. منظرها يسلب الألباب ويحيّر العقول..لكنها مع الأسف خالية المضمون، خالية من العقول، فلا المعلم معلم ولا المدير مدير إلاَّ في القليل النادر..وقد كان يكفينا مدرسة تبنى من الحجارة غير المبخورة أو تبنى من مادة «البردين»..لكي ندخر تكاليف باهظة نخصصها لبناء الإنسان بناءً سليماً راقياً، نؤهل بها المعلم، تأهيلاً علمياً ونفسياً واجتماعياً وإنسانياً بحيث يستوعب أهمية وجوده في تنمية العقول وصياغة النفوس..وإذا توفر لأي بلد في الدنيا، المنهج السليم والمدرس الكفء والحد الضروري من المعامل والمختبرات والمكتبات والملاعب..فقد حازت مدارسها على سبق التفوق والتميز على غيرها حتى بدون حجر مبخور أو عقود مقلوبة. عندما هزمت اليابانروسيا في مطلع القرن رفع الجنرال الياباني عقيرته قائلاً: «انتصر المعلم الياباني» وعندما سبقت روسيا الأمريكان إبان الحرب الباردة عام 1957م صرخ العالم الأمريكي «كارول الندورفر» لقد انتصرت المدرسة الروسية على المدرسة الأمريكية». وفي إبان اشتداد محنة فرنسا في الحرب العالمية الثانية دعا الجنرال ديغول «علماء التربية» في بلده لبناء تربية مستقبلية طموحة، لأنه استوعب معنى الهزيمة الماحقة التي مُنيت بها فرنسا أمام ألمانيا بأنها تعني تفوق المدرسة الألمانية على المدرسة الفرنسية، وهل سمع الناس في بلادنا عن تقرير كوك كروفت التربوي الانجليزي الذي أصدره عام 1928م، أو التقرير التربوي الأمريكي الشهير «أمة معرضة للخطر»!! الصادر عام 1983م، حيث يعزو كل تقرير أن أكثر المشكلات في بلادهما إلى انحدار مستوى التربية والتعليم. ماذا نقول نحن عن المشكلات في بلادنا؟ عن أبعادها؟ وأسبابها؟ هل استطعنا أن نخرج عن دائرة الاتهام بعضنا للبعض الآخر..حيث نجد أن المعارضة تعزو أسباب ما تواجهه بلادنا من صعوبات الحياة وارتفاع المعيشة إلى قصور كوادر المؤتمر وفشلها في إدارة شئون المعيشة وشئون التعليم والصحة وغيرها..فيكون رد الفعل قوياً وصاخباً من قبل كوادر المؤتمر «ألا لا يجهلن أحد علينا». ثم تمضي الحياة هكذا رتيبة، قاسية، شحيحة العطاء، يشوبها سوء الظن وعدم الثقة بالآخر من كل الأطراف..«كل يغني على ليلاه». إن مانراه اليوم من تشاحن وتباغض وتنافر بين أبناء الوطن الواحد سببه مدرسة فاشلة ومنهج دراسي عاجز ومعلم لا حول له ولاقوة على مستوى المرحلة الإبتدائية والإعدادية والثانوية وحتى على مستوى المعهد والجامعة لا بد من السعي الحثيث والإصرار على تغيير مفاهيمنا للتعليم، بحيث يرسخ في أذهاننا أهمية تنمية شخصيات تلاميذنا، وصقل مواهبهم الإبداعية،والاهتمام بتطوير قدراتهم الذهنية والجسدية والفنية بصورة متوازنة كما يفعل الآخرون في البلدان المتقدمة، التي أخذ أطفالنا وشبابنا يقلدونهم في طريقة لبسهم وسخافاتهم ولايقلدونهم في نبوغهم وجدهم واجتهادهم وذكائهم وفطنتهم.. نحن بحاجة ملحة إلى إعداد أبنائنا للمشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والوطنية والاقتصادية..وإلى أن نزرع في عقولهم الاحترام للغير والرغبة في التضامن مع قضايا الآخرين والتعاون معهم ومساعدتهم بعيداً عن أحقاد الحزبية وضغائنها وتهافتها..وهذا لن يتأتى إلاَّ إذا أعددنا المعلم إعداداً سليماً، علمياً ونفسياً وثقافياً واجتماعياً وإنسانياً..ثم نصرف له المرتب المجزي والحوافز التي يستحقها والتكريم والتبجيل الذي يرفع من كفاءته ويحل عقده، وبعد هذا كله لابد أن يجد المعلم من يتابعه ويقيم أداءه، فإما أن يثبت جدارته أو يبحث له عن عمل خارج نطاق التعليم فإن لم نفعل ذلك وبصورة عاجلة وملحة فسوف نظل «في محلك سر» مهما بالغنا في الادعاء أننا نتقدم إلى الأمام.