تواجه الدولة اليمنية تحديات ومخاطر كثيرة ويأتي في مقدمة تلك المخاطر أن بعض قوى المجتمع مازالت تقاوم مفهوم الدولة الحديثة، لصالح قيم وانتماءات ماقبل الدولة، والأخطر من ذلك توظيف الانتماءات الطبيعية داخل المجتمع في الصراع السياسي، والعمل على تحويل الانتماء المقبول بحكم تعدد واختلاف المجتمع إلى ولاء سياسي يدار من خلاله الصراع مع الدولة، وهذا بطبيعة الحال يضعف الدولة وقيم العيش المشترك وكل القيم الحديثة المرتبطة بالدولة كإطار جامع لكل أعضاء المجتمع بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية وهذا يمثل أعلى تهديد يواجه بناء السلم الاجتماعي. والإعلاء من شأن الولاء الطائفي او القبلي أو المناطقي داخل الدولة وتفعيل قوة الناس باسم الولاء الاثني في الصراع السياسي يجعل المجموعات تنزع نحو الاستقلالية، ويجعلها تسعى لمحاولة فرض رؤيتها ومصالحها بما يناقض القيم المؤسسة للدولة الحديثة. والملاحظ في واقعنا اليمني أن بعض القيادات المتحكمة بالجماعات، نتيجة عجزها وفشلها في استيعاب العصر تقوم بتوظيف قوة الطائفة أو القبيلة أو الانتماء المناطقي، في مواجهة الدولة لتحقيق مصالحها، وما يهدد السلم الاجتماعي أن تلك القيادات في حالة عجز الدولة عن الاستجابة لمطالبها غير المشروعة أو في حالة سعي الدولة لمقاومة هذا السلوك غير الطبيعي في الصراع السياسي، فإن تلك القيادات تلجأ إلى القوة وممارسة العنف للضغط على الدولة، وهذا السلوك يُدخل الدولة في مواجهات لبسط سيطرتها ونفوذها وهذا السلوك من قبل الدولة لمواجهة هذا الفساد المدمر للمجتمع والدولة بطبيعة الحال ونتيجة ضعف القوى الحديثة وسيطرة التقاليد يخلق سواتر بين المجتمع ودولته لصالح القيادات التقليدية. مع ملاحظة أن مواجهة الدولة للولاءات الدنيا وإن لعب دوراً ايجابياً في قدرة السلطة المركزية على فرض سيادتها على الإقليم إلا أنه من جانب آخر يجعل دورها في بناء الاندماج الوطني بين مختلف الفئات الاجتماعية اقل مما هو مفترض، فصراع الدولة لمقاومة نقائضها في مجتمع تقليدي، يولد مقاومة من المجتمع، ويجعل أصحاب المصالح الأنانية قادرين على توظيف هذا الصراع لصالحهم، خصوصا وأن قيم الولاء المحلي لظروف تاريخية مازال أقوى من الولاء للدولة، وهذه المقاومة التي يبديها المجتمع للدولة يضعف الدولة وتتحول الدولة إلى إطار للغنيمة يتصارع عليه الجميع، مما يعني أن مقاومة الدولة بتفعيل الولاء للطائفة او المنطقة او القبيلة هو المدخل الفعلي المؤسس للفساد والخادم المحبوب للقوى الفاسدة داخل منظومة الدولة. والولاء الاثني إشكالية في غاية الخطورة على بناء الدولة وعلى القيم الحديثة ففي حالة تعمقها واستفحالها فإن الآليات الديمقراطية وقيم الانفتاح السياسي مثلاً تتحول إلى قوة سلبية، لأن التنافس مثلاً لا يتم بناء على البرامج والرؤى السياسية ولكنه يتم على أساس القيم التقليدية، كما أن الصراع السياسي بوجهه السلبي يهيمن بقوة في الساحة وتصبح التحالفات التي تتم تستند على أساس ولاء ماقبل الدولة، وهذا يعمق فكرة الولاء للانتماءات الدنيا، وتصبح الديمقراطية أداة تؤسس للانقسام بين أبناء المجتمع الواحد وربما تقود إلى الصراع السلبي وبأشكاله العنيفة. ولتوضيح الفكرة سنحاول عرض بعض الأمثلة التوضيحية، فالحركة الحوثية مثلاً كان قائدها يمارس اللعبة الديمقراطية، وقد فاز بمجلس النواب باسم الحزب الحاكم، وانتخابه في المنطقة تم بناءً على الانتماء الأولي لا لأنه يمثل حزباً سياسياً له رؤية سياسية ومشروع يدافع عنه، من جانب آخر رغم تعامله مع الآليات الديمقراطية، ولكنه كان يعمل على بناء قوة منظمة بأبعاد مناقضة لفكرة الولاء للدولة، بل أسس لتنظيم، تحدى شرعية الدولة، ومارس القوة لفرض سيطرته على مناطق تواجده، وأخرج الأفراد من ولائهم للدولة وجعل من ولاء الأعضاء للقائد وتنظيمه جوهر وأصل الولاء بل الولاء للدولة كفر، وأياً كان الهدف الذي تسعى إليه الحوثية، فإن طبيعة تركيبها التنظيمي والفكري ترفض فكرة الدولة لصالح الجماعة، وقد نتج عن سلوك التنظيم الحوثي إدخال الدولة والمجتمع في حالة صراع سلبي، كان له دور كبير في عرقلة مسار التنمية، وبعث قيم مناقضة لفكرة الدولة وقيمها الحديثة. والنخب القبلية كمثل آخر تستغل الولاء القبلي وتوظف أبناء القبيلة لمقاومة سلطة الدولة ومقاومة سياساتها وتحدي شرعيتها، واستغلال قوة القبيلة في الصراع على السلطة والثروة، وتعمل تلك النخب على حجب الثقافة الحديثة وترسيخ وعي القبيلة ليصبح هو المحدد لسلوك الأفراد وفي هذه الحالة تصبح الدولة مجبرة على التعامل مع تلك النخب على أساس أنها تمثل قبائلها وهذا يسهم في تعميق الإشكالية لأن النخب القبلية تعزل الدولة عن المجتمع وتبدأ في بث الوعي القبلي حفاظاً على مصالحها وحتى تكون قادرة على مقايضة الحاكم في صراعها على غنائم الدولة.. وفي حالات كثيرة يتم استخدام التعبئة المناطقية من قبل بعض النخب لإدارة الصراع السياسي وخدمة لمصالحها، وبعث روح الولاء للمنطقة من قبل النخب هدفه الضغط ومواجهة من يحكم الدولة، وهذا وإن حقق مصالح النخبة المناطقية، وساعد الحاكم على ضمان ولاء الناس في المناطق نتيجة إشباع رغبات النخب، إلا أن هذا السلوك يضعف الدولة وفكرة المواطنة والتضامن الاجتماعي، ويؤسس لثقافة انتهازية تقبل مسألة استغلال الدولة خدمة للمصالح الأنانية. والدعوات الانفصالية التي برزت في بعض المحافظات الجنوبية والتي تحاول التأسيس لهوية قائمة على اساس جغرافي وفلسفة عنصرية متخلفة وجعل محور الولاء يتمحور في عنصرية جغرافية يوضح مدى الفساد الذي أصاب بعض النخب السياسية في بلادنا، وهذه الدعوات المؤسسة على فكر مناهض للدولة بآليات وشعارات فاسدة يؤسس للاستبداد ويضعف الدولة لصالح القوى الفاسدة . والولاءات الدنيا عندما تسيطر على المجتمع فإن ذلك يهدد القيم والمبادئ الحديثة التي تؤسس لدولة ومجتمع قادر على مواجهة العصر، فالديمقراطية مثلاً بحاجة إلى دولة قوية ومجتمع متضامن متعاون تحكمه فكرة المواطنة، وحتى تترسخ الديمقراطية وتتحقق قيم المساواة والعدالة والحرية لابد أن يكون الولاء السياسي في الدولة بصرف النظر عن انتماءات الفرد التي تظل مقبولة بشرط أن تكون الدولة في ظل التنوع هي الإطار الجامع.. والبعض قد يبرر سلوكه المناقض والمتحدي لفلسفة الدولة، بسبب سلوكيات سلبية ناتجة عن وجود أفراد في الحكم يعملون على توظيف مواقعهم لخدمة مصالحهم، أو نتيجة حقوق مسلوبة، ومما لاشك فيه ان هناك سلبيات في إدارة الدولة، وهذا يفرض على الجميع مقاومة الأخطاء بما يخدم بناء الدولة، والعمل على تفعيل الآليات القادرة على حماية الدولة من الاختراق، وبالوسائل والآليات التي تؤسس لها قيم الدولة الحديثة، وهذا السلوك واجب وطني يتحمل مسئوليته الجميع، أما تحدي الدولة ومقاومتها وبعث قيم متناقضة مع الدولة لمواجهتها وللدفاع عن الحقوق، فإن هكذا سلوك يؤسس للفساد والتخريب، وهو أشد خطراً وفتكاً بالمجتمع والدولة من سلوك الانتهازي الفاسد داخل مؤسسات الدولة