من ثقافة النكف والداعي إلى ثقافة مدنية تبحث عن دولة الغنيمة.. شيخ القبيلة عندما يمارس السياسة باسم القبيلة، فإنه يعلي من انتمائه القبلي، لتصبح القبيلة ووعيها هما الأصل، ولأنه انتماء متحيز للأنا القبليّة المحكومة بالعصبية، فأنه يؤسس لثقافة تقوم على التمايز والتغاير مع الآخر، فالولاء للقبلية وأبنائها هو مصدر شرعيته الحقيقية، لذا يصبح لها الأولوية بحكم الوعي المهيمن، وهو بطبيعة الحال وعي لا ينسجم مع القيم المدنية التي تؤسس للمواطنة المتساوية، وهذا يجعلنا نرى أن المواطنة تفقد معناها الحديث في ظل حراك سياسي يقوده الشيخ، لان الحراك يصبح محكوم بالوعي القبلي. إلى ذلك يسهم توظيف القبيلة في العمل السياسي في نمو العصبيات الأخرى في المجتمع، فكل طرف في ظل المنافسة والمغالبة الذي يحكم النخب، يصبح اللجوء للقبيلة وبعث قيمها التي تذكي روح العصبية والمواجهة أمر حتمي لمغالبة وقهر الآخر، وهذا يقود المجتمع نحو التشظي وتفكيك لحمته، والسير به في اتجاهات صراعية من أجل الغنائم. ونتيجة لذلك تصبح الدولة المؤسسة المدنية الأكبر باعتبارها المشترك الذي يعبر عن الجميع، مجرد أداة ومحل للغنيمة بين القوى المجتمعية، فإما ان يتم التوافق على القسمة أو يحدث الصراع العنيف، ليحسم القوي الصراع لصالحة ويصبح الآخر مجرد تابع. من جانب آخر الوعي القبلي ونتيجة طبيعة الهدف والقيم التي تحركه، فانه يفرز نزوع استبدادي متجاوز للمجموع الشعبي، ولمفهوم الدولة العامة الشاملة، لتصبح الدولة نظام سياسي متسلط قاهر للناس، ومتمحور حول نخبة قبلية لا همّ لها إلا مصالحها، وعلى الرغم أن النظام الناتج يعمل جاهدا على بناء توافق وتوازن، لكنه توافق يتناقض مع الدولة بمفهومها المعاصر، لأنه توافق على قسمة النفوذ والثروة والسلطة لا توافق على القيم المدنية العصرية. والمتابع لواقع القبيلة يلاحظ أن الثقافة القبلية نمطية تكرر نفسها ولا تتجدد وهي ثقافة جبرية يشكل العنف والثأر مرتكزا أساسيا في بنيتها خصوصا عند الصراع على الموارد، ومما لا جدال فيه ان هذه الثقافة تتناقض مع المجتمع المدني، الذي تحكمه ثقافة سلمية تعاقدية، لذا نرى أن محاولة سحب تقاليد القبيلة إلى المجتمع المدني يمثل ممارسة فاسدة تخرب القبيلة بإعادة تفعيلها بصورة صراعية في العملية السياسية، وتشوه المجتمع المدني وتعمل على تدمير تكويناته الناهضة القائمة على التعاقد وبالتالي تهديد كلي للدولة وقيمها المعاصرة. وعلى المراقب أن لا ينخدع في حالة استخدام بعض محرضي القبيلة لمواجهة الخصوم، خطاب سياسوي يتضمن في بنيته رؤية حداثوية، فالشيخ على يقين أن القيم القبلية راسخة في بنية الثقافة التقليدية المؤسسة للوعي القبلي، ومن المستحيل تغييرها، وفي ظل تجميد الحراك الثقافي داخل القبيلة والنزوع الراسخ في البنية القبلية لمقاومة الجديد، فأن التجديد الثقافي آخر ما يفكر فيه من يستند على قوته القبلية، لأنه يرى في الثقافة القبلية منتهى الإبداع لذا فان شيخ القبيلة عندما يبحث عن التغيير بواسطة السياسة فانه يعيد أنتاج نفسه بمظاهر مختلفة في الشكل، ولكن الوعي جامد لا حراك فيه. لذلك عندما ينشئ مؤسسة سياسية أو يديرها فانه يريدها ان تكون انعكاس لوعيه القبلي، وان يكون هدفها ترسيخ سلطته، وبناء قوة قادرة على زيادة قدرته في مخاصمة أعدائه، وتمكنه وهذا هو المهم من تضخيم غنائمه. إلى ذلك من ترتكز شرعية وجوده على القبيلة عند توظيفه لطاقات فكرية تتبنى الجديد، وقوى ثقافية حديثة تبرر سلوكه، فانه هنا لا يخرج من وعيه ولكنه بحاجة هذه القوى لتحقيق حلمه بالسيطرة على أم الغنائم الدولة، فقوته القبلية المعسكرة والمالية لا تكفي للسيطرة على الدولة بعد ان اتسعت رقعتها والقوى الفاعلة فيها، ورغم استعانته بأدوات حديثه في صراعه فأنه يقرأ الدولة بوعيه القبلي، وثقافته التقليدية المتحكمة بسلوكه، لذا فالسيطرة على الدولة هي إعادة إنتاج لسلطته القبلية ليس إلا. والشيخ القبلي لديه ذكاء حاد في إدارة الصراع ولأنه على قناعة أن الثقافة الجديدة مآلاتها الحتمية القضاء على سلطته، ومحاصرة الوعي القبلي الذي يستند عليه في ترسيخ شرعية وجوده وهيبته ونفوذه، لذا فالمؤسسة التي يقوم بتكوينها أو يعمل من خلالها هدفها إعاقة التغيير والوقوف ضد التجديد المناقض لمصالحه ولكنه لا يصرح بذلك ويلعب لعبته باحتراف. فيعمل من خلال بنية حداثية مع ملاحظة أن البنية الحديثة هي نتاج التغيير في الواقع لا في الوعي لديه، وعندما يعمل من خلال المؤسسة الحديثة فأنه يخرج المؤسسة من وظيفتها ويحولها إلى أداة تخدم وعيه ومصالحه فيُفعل ثقافته التقليدية في بنيتها ومن خلالها يحقق التوسع ويعيد تنظيم القوى والنخب التي تتشابه معه في الوعي، وإعادة تقوية فاعليتها في امتداد المكان والحيز الذي تحكمه الدولة والقوى المدنية. والشيخ عندما يدخل بثقافته التقليدية من خلال البنية الحديثة فأنه يعمل بقوة لمقاومة الثقافة الجديد، ويفرض وعيه على المجال العام، وهو يدرك أن أي تجاوز لثقافته يشكل خطر كبير على مصالحة، لذلك فانه يرغب في إخراجها من دوائر القبيلة الضيقة المحلية، ليمنحها دائرة واسعة تشمل الوطن كله ويصبح الوطن هو القبيلة. فلفظ شيخ مشايخ يحمل في مدلوله نزوع لتوحد قبلي شامل يكتسح كل الامتدادات المكانية للوطن، بما في ذلك الامتداد المديني، أي ان التنظيمات المحكومة بالوعي القبلي أيا كانت شعاراتها المرفوعة فهي ليست إلا بنى ثقافية متحيزة للوعي الذي يحكم من يديرها. ولأن السلطة في الراهن هي مصدر الغنيمة الوحيد، والطريق إلى عالم التجارة لا يكون إلا من خلالها، فأن احتلالها او المشاركة في القسمة مسألة مصير، ولتحقيق طموحة فأنه لم يعد مجدي حصر مطمع الشيخ داخل محلته او قبيلته، انه يطمح ان يعمم وعيه إلى كل قرية داخل اليمن حتى يكون قادر على قطف الغنيمة كلها. كل ذلك يجعلنا نرى انه لا وجود لأي أمكانية بان تتحول القبيلة إلى مكون طبيعي في بنية المجتمع المدني، إلا بتغيير بنية القبيلة ووعيها أولا، وتأسيسها على القيم الحديثة، أما والحال كما يعرف الجميع، فأننا نرى ان إخراج القبيلة من معقلها الاجتماعي والزج بها في السياسة يجعلها تسحب ثقافتها إلى المجال العام وتصبح ثقافتها ووعيها قوة طاغية تفرض نفسها ووعيها العصبي وثقافتها المغلقة على الحياة المدنية الأخذة في النمو والتطور. والرهان على القبيلة في وضعنا الراهن وتطوير المجال العام بأدوات حداثية وفق تصورات الوعي القبلي وفهمه وسلوكه وطريقة تعامله مع الأشياء والخاضع كليا للثقافة التقليدية رهان خاسر، لان البناء المدني الذي تعمل من خلاله لا يؤسس لمجتمع مدني، ولكنه يبني مؤسسة مشوهة ووحش قوي يكتسح البناءات الحداثية للمجتمع المدني؛ أي انه يسعى لتدمير نقيضه وبذكاء شديد. *عن نيوز يمن