قبل الحديث عن الأثر الذي يمكن أن يحدثه اتفاق« الدوحة » على المنطقة لابد من الإقرار بنجاح الجامعة العربية التي اكتسبت زخماً جديداً منذ تولي عمرو موسى لأمانتها العامة ولاشك أن دور الوساطة القطرية كان له أثر بالغ في إنجاز هذا الاتفاق فهناك أخبار أن« قطر »لم تكتف ببذل كل تلك الجهود «الماراثونية» التي كانت متناغمة مع جهد الجامعة العربية ولجنتها، وإنما دفعت ثمناً مادياً أيضاً لإنجاح هذا الاتفاق التاريخي الذي قبلت به أطراف النزاع في لبنان ومن ورائها من هم خلف الكواليس وخارجها. وقد أظهر الاحتفال بتنصيب العماد ميشايل سليمان رئيساً للبلاد اللاعبين الحقيقيين على المسرح اللبناني فظهور وزيري خارجيتي سوريا وإيران وكذا وزيري خارجيتي السعودية ومصر أكد القول بأن الخلاف في لبنان يتجاوز حدوده، بل ان صيغة الاتفاق جعلته أقرب إلى الهدنة منه الى الاتفاق النهائي والاشتباكات الأخيرة بين الموالاة والمعارضة التي طوقها الجيش اللبناني قبل يومين وبعد انتخاب الرئيس تدعو الجميع إلى عدم الإفراط في التفاؤل، فقد جاء الاتفاق متزامناً مع تطورات إقليمية جديدة أبرزها إعادة التفاوض على المسار السوري الإسرائيلي وفقاً لمرجعية مدريد، ولم يكن هناك مانع من السماح بدور سوري في إنجاز هذا الاتفاق تشجيعاً لسوريا على الاستمرار في التفاوض.. كما أن زيارة وزير الخارجية الإيراني لكل من السنيورة والحريري تكشف عن رغبة إيرانية في المشاركة بعمل ما في لبنان الجديد، وهي أيضاً «أي الزيارة» تمثل اعترافاً ضمنياً بهذه الحكومة التي طالما زعم معارضوها أنها غير شرعية. لقد حقق الاتفاق مكاسب للطرفين، الموالاة والمعارضة، فقد أعطى الثلث المعطَّل الذي كانت تطالب به المعارضة وكذا تعديل قانون الانتخابات وقد كانت فائدة الموالاة التأكيد على شرعية الحكومة، كما أدى إلى انتخاب الرئيس التوافقي ولم يتعرض الاتفاق للمحكمة الدولية التي أصحبت بعهدة الأممالمتحدة غير أن سلام حزب الله لازال يمثل نقطة خلاف ربما تتحول إلى قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت.. أما أثر الاتفاق على المنطقة فهو حسب القراءة الآنية كالآتي: 1 على مسار العلاقات اللبنانية السورية من المتوقع أن يتم انجاز ترسيم الحدود مع سوريا وسيتم أيضاً تبادل التمثيل الدبلوماسي بينهما. وإذا نجحت المباحثات بين سوريا وإسرائيل فإن أثر ذلك سينعكس على الدعم السوري لحزب الله وسيتم تشجيع الحزب ليتحول إلى حزب سياسي، خاصة إذا انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا وكفر شوبا اللبنانيتين. 2 على المسار الإقليمي ربما يخفف هذا الاتفاق من الاحتقان القائم بين السنة والشيعة في المنطقة والذي نتج عن الأحداث في العراق وظلت ولازالت تغذيه قوى متطرفة من خارج الحدود العراقية. 3 على مسار العلاقات العربية العربية قد يحدث تقارب بين سوريا ودول الثقل العربي مصر والسعودية بعد أن دخلت سوريا في مفاوضات مع اسرائيل وربما أسفرت عن التحاق سوريا بركب التسوية والتطبيع. 4 لن تحرم اسرائيل من مكاسب هذا الاتفاق وإن كانت لا تتمنى حدوثه فهي إذا نجحت في احراز تقدم في المفاوضات على المسار السوري تكون قد أمنت الجبهة السورية بعد تأمين الجبهتين المصرية والأردنية. أما لبنان فإن أكثر الأطراف فيه على قناعة بأن يتحول إلى دولة حياد «كسويسرا» لأن التركيبة السكانية لا تسمح للبنان أن تكون طرفاً في نزاع وهذا القول أكد عليه رئيس حزب الكتائب أمين الجميل الرئيس السابق للبنان، وهي دعوة قد تعزل لبنان عن محيطه العربي وقضاياه مع أن لبنان في الأصل هو بلد المنشأ للحركة القومية العربية. بقي القول إن اللبنانيين يدركون تماماً خطورة الانجراف وراء طموحات دينية أو مذهبية أو طائفية وقد أكدت الأحداث التي سبقت الاتفاق هذه الحقيقة، لذا لا بديل عن التوافق والتعايش إلا الحرب الأهلية والواجب على اللبنانيين أن يبحثوا عن الصيغة المناسبة للعيش المشترك بعيداً عن التدخلات الخارجية والمغامرات غير المحسوبة. وإذا كانت «قطر» تؤدي اليوم دور حمامة السلام على أكثر من مسار فإن المطلوب دعم هذه الجهود حتى تؤتي ثمارها بعيداً عن الغيرة والغرور فقد كانت الكويت قبل غزوها عام 1990م تقوم بنفس الدور وكان لجهودها الطيبة أثرها في اطفاء العديد من الحرائق ومنها المساهمة في إيقاف حرب الشطرين في اليمن عام 1979م. وبدلاً من تحميل مسئولية الإصلاح بين الاشقاء لبلد معين فإن الجامعة العربية أولى بهذا الدور والمطلوب التنسيق معها في أي جهد من هذا النوع لإعادة الاعتبار لها أولاً ولخلق مرجعية حقيقية لحل المشكلات العربية. وليس عيباً إعادة النظر في ميثاقها الذي ظهر في ظروف غير التي نعيشها الآن.. إن تطوير الجامعة العربية لتصبح أكثر فاعلية هو تفعيل للعمل العربي المشترك وهو ماسيجعل من الجامعة مظلة للاتفاقات العربية بعد أن كانت مظلة للخلافات بين العرب.. لاتزال هناك قضايا كثيرة تمثل تحدياً للجامعة العربية ومطلوب منها التدخل لحلها فهناك الصومال، ودارفور، والمشكلة بين السودان وتشاد وغيرها وغيرها.. ولن تتمكن الجامعة من حل كل هذه القضايا مالم يتوفر جهد عربي مشترك تدفعه رغبة حقيقية لحل هذه المشكلات. فهل آن الأوان لظهور نظام عربي جديد تكون الجامعة العربية مرجعيته وقائده أم سيظل التشرذم قدر الوضع العربي المعاصر؟! والله من وراء القصد