ترسم الحكومات سياساتها طبقاً لأولويات الاحتياج والأهمية، وإذا ماتعلق الأمر بالقوت اليومي للمواطن فإنه تلقائياً يحتل الصدارة كونه احتياجاً أساسياً، لكن هذا المنطق قد يأتي عندنا معكوساً ويصبح القوت حاجة ثانوية!! عندما نفكر أن نعطي شخصاً قصراً منيفاً، وسيارة فارهة مقابل أن نحرمه من الطعام، فمن البدهي أن يفضل العيش في خيمة مقابل أن نمنحه قوته اليومي.. ولو أي جهة حكومية فكرت بأن تنقل مواطناً إلى العيش في أجمل منتجعات العالم دون أن تكفل له الحصول على وجبة طعام لاختار البقاء في سكن من صفيح طالما يضمن فيه الحصول على رغيف خبز، لأنه بغيره يموت.. فياترى لماذا تعتقد بعض الجهات الحكومية أن مواطنها سيرحب بالتضحية بمصدر رزقه من أجل أن تبدو شوارع مدينته جميلة!؟ منذ انتخاب المحافظين الجدد استعرت الحملات التي ترفع شعار «تحسين مظهر المدينة» ولم يعد هناك مشهد يومي أكثر إثارة من تلك المطاردات للباعة المتجولين، وأصحاب الفرشيات، التي يقوم بها رجال البلدية صباح كل يوم، مستعرضين مهاراتهم بفنون رفس البضائع بالأقدام، أو بعثرة الخضار في الشوارع وبطريقة أكثر من استفزازية لكل من يراها.. رغم أن هؤلاء الباعة يتعرضون لابتزاز يومي من قبل البلدية، ناهيكم عن الجبايات الرسمية «بسندات» بعضها مشروع والبعض الآخر لم ينزل الله بها من سلطان!! ولأن السادة المسئولين حريصون على «مظهر المدينة» فإنهم لم يمانعوا إضافة عدة مئات جديدة من البطالة على مستوى كل مديرية إلى معدلاتها السابقة، وكذلك إضافة الرقم نفسه لمعدلات الأسر الفقيرة.. فيما البعض زهق من المطاردات اليومية، والإذلال، ففضل أن يقلع نهائياً عن عمله الذي «يشوه مظهر المدينة» والتحول إلى أعمال قطع الطرق، والتسليب، واختطاف مركبات بعض الشركات وابتزازها.. إذ أن هذه الأعمال بريئة من تشويه مظاهر المدن، لأنها تجري في أطرافها..! المسألة المثيرة في هذا الموضوع هي أن الجهات الرسمية تعلم كل العلم أن اليمن تعاني معدلات أمية مرتفعة، وكثافة سكانية هائلة، وأزمة سعرية حادة.. وأنه نتيجة لهذه الظروف فإن النسبة الأعظم من قوى العمل تفتقر للمهارات الحرفية، لذلك تلجأ إلى الأعمال البسيطة التي لا تتطلب مهارات فنية كأعمال البيع والخدمات.. ومع هذا فإنها تعتقد أن على هذا «الرعوي» أن يؤجر محلاً ويعمل فيه كما لو كان دخله اليومي آلاف الريالات.. ومتجاهلة أيضاً أن قسماً كبيراً من الباعة المتجولين هم طلاب يستغلون ساعات المساء لكسب قوت أسرهم. بالتأكيد لسنا معارضين لرغبة الدولة في تحسين مظاهر المدن، فهذا عمل طيب، ولكن ليس قبل توفير البدائل المناسبة لأوضاع أناس لايتجاوز الربح اليومي لبعضهم المائتي ريال، وأحياناً أقل.. كما أن ذلك لايجب أن يكون مشروعاً لابتزاز المستضعفين كما هو الحال اليوم ونعتقد أن منظر المتسولين الذين يتقافزون أمام السيارات عند الجولات هو الأكثر تشويهاً لمنظر المدينة.. ومنظر النساء اللواتي يوصدن الأرصفة بالأطفال الرضع المخدرين هو المشهد الأعظم تشويهاً للمدن.. وبالتالي من كان قصده تحسين المظهر عليه أن لا ينتقي الشريحة التي يسهل ابتزازها، ومضطرة للدفع رغماً عن أنوفها وإلا ستموت جوعاً. لابد أن نفهم بأن المشكلة هي أن الله خلقنا شعباً فقيراً، وشاء أن يؤول قدرنا فيما مضى إلى احتلال بغيض وإمامة مستبدة كرست جهلنا وزادتنا فقراً.. واليوم نعيش تحولات كبيرة، وطموحاتنا لم يعد لها حدود، وأصبحنا نتطلع إلى أن نكون مثل غيرنا من الدول، ولكن لسنا بنفس ظروفها.. لذلك يجب أن تكون تحولاتنا موزونة، ومنتقاة بأولويات حكيمة.. فلنترك الناس تتكسب رزقها، وتعلم أبناءها، وقريباً ستكون ثروتنا جيلاً متعلماً ومؤهلاً لبناء الحياة الكريمة.. دعوا الناس تمر إلى المستقبل.. فاليمن منذ سنوات قليلة انتعشت في أسواقها حركة البيع والشراء والناس فرحون أنهم يجدون فرصة لاشباع أطفالهم، فما بالكم تكتمون فرحتهم وتقتلون أمانيهم.. يكفي الجهات المختصة إلزامهم بتنظيف أماكنهم، وتحميلهم مسئولية التقصير.. والدعاء لهم بأن يفتح الله عليهم أبواب رزقه.