أخذت الرياح تغازل شبابيك ذلك المنزل البسيط في أطراف الحي بخجل، مهددة إياه بالسقوط بعد أن أثقلت الرطوبة أركانه وقت أن خيم الليل بجناحيه فوق تلك المدينة الساحلية، وفي إحدى زوايا ذلك المنزل تنام أم محمد، فقد أنهكها الجري الشديد طوال اليوم وهي تبيع الفاكهة في سوق المدينة لتعود آخر اليوم ببقية الفاكهة التي يُحرم على أولادها أكلها...!! وبضع من المال لايسد رمق الجوع لديهم ...!!بينما تدخر أجر ابنتها الضئيل مقابل خدمتها في المنزل الكبير في الحي المجاور ليفوز به محمد مقابل دراسته الجامعية في عاصمة الوطن .. أسقت من صحتها وشبابها أرض ابنها كي ينبت شجرة قوية يستند عليها بقية أطفالها ويأكلوا من ثمارها . كبتت تنهدات ابنتها وهي تسكب الدموع عندما ترتدي قناع الذئاب على الرغم من صغر سنها...!! لتواجهه ذئاب الحي حين عودتها تدربت هي وابنتها على صوت النباح كي تتفاهم معهم بلغتهم، أنهك يديها الغسيل والتصفيق لعامل الحي الذي يأخذ نصف مستحقاتها من أهل الخير والإحسان. المهم أن يرجع محمد بالشهادة... والذي مات أبوه وهو يوصيها بأن الخير سيأتي مع شهادة ابنهما... ويكون صوت القانون في زمن تغيرت فيه الكثير من التسميات... فما عاد القانون هو القانون، ولا المُشرع هو المُشرع . فكان ذلك اليوم الحلم.. عاد محمد بشهادته ليلتحق بركب دعاة الحق والمناضلين لنصرة المظلوم.. خاصة وهو ابن تلك الارملة التعيسة، وأخ تلك اليتيمة المقهورة، وأخ لإخوته الفقراء، فمضت الأيام تلو الأيام ،والشهور تلو الشهور... ومحمد كلما جرب الطيران إليهم كان أجمل أمانيهم أن يسقط ... وكلما أراد أن يسرد لهم حكايا والده عن ثوار الوطن الذين أوصلوهم إلى ماهم فيه... كان ابن هادي يتربص له بالأدراج وبين الأوراق... كلما أراد أن يفتت جدران الفساد الذي بينه وبين مديره وأبناء حيه الفقير زُرعت له الأشواك التي تدمي قلبه قبل يديه... كلما أراد أن يبحر بالسفينة حيث الأمان أبحروا به إلى حيث لايدري... فتربص به المجهول!!! وبدأ يغزل شباكه حوله بعد أن تشابهت أيامه لديه حد الملل ...فأشعروه بالغربة في منزله، وفي حيه، وفي وطنه، وحتى عن وصايا والده...!!! غرسوا في داخله إحساساً مرعباً بأننا نحيا حياة خطأ!!! وأن أمه خطاً، وأخته خطأ، حملوه مسؤولية رذائل هي بعيدة عن عالمنا كل البعد... جعلوه في حالة عصبية دائمة، أو حالة من الذهول، والصمت المؤلم... جعلوه يتخبط كثيراً في محاولات فاشلة لمحاربة الرذيلة في ظاهرها بعيداً عن مكمنها ...فقننوا حقوقه الشرعية بحاجة الجائع فقط ...!!!جعلوا له حياته الخاصة التي يخبئها عن أمه،وعن تلك الأخت التي كانت بمثابة الرفيقة والصديقة الحنونة له!!! جعلوه يمارس دوراً غير دوره.. أسبغوا عليه دور الرجل المتزن وهو يتمنى في داخله أن يعود إلى سالف عهده. حاولت أن أحاوره.. صرخت كي يسمعني شرحت له تلك المقولة بأسلوبي الأمي البسيط «أن الانبهار يساوي الانصهار.. يساوي الاندثار» كما قال أحدهم في المذياع، هددته بأني سأبكيه بصوتي دون دموع ...وأبلغته أنه أبشع أنواع البكاء لأنه وضعني في كهف مظلم ...نتقاسمه مع الخفافيش، والغربان ،على إثر مطاردة الأسود لنا ...!! فأصرخ ليعود صوتي لي عندما....... ذكرته بأني سهرت الليالي أبذر الثمر.. مقابل مجهول يتفنن في زراعة الأشواك...!!! ذكرته بتاريخ أجداده مقابل. مجهول يتفنن بتحوليه إلى خشب مسندة كي يشبع غرور نفسه بأنه الأصح أو على الطريق المؤدي للجنة...!!! ذكرته كيف كنت أرقع ثوبي أنا وأخته، وكيف كنا نتضور جوعاً، والمجهول يتفنن بغرس فكرة أني مصدر الخطيئة وعليه يجب وأدي...!! ذكرته بأني لن أصغي إليه.. وكل همه أن يُعدّ الجمل في ذهنه من أجل المعارضة الجوفاء فقط... وأكدت له بأني لن أصغي إليه بعد اليوم، وقد أجلت الاعتراف بأنه سندي، وأقسمت له بأني لن أدنس وفائي بعهدي لوالده ولن أغني على عتبة أبوابهم لأن الذين لايتراجعون عن أفكارهم مطلقاَ... يؤمنون بأفكارهم... أكثر من إيمانهم بالحقائق...!! وسأواصل أنا وأخته مشوار ما ختمناه معه لنبدأه مع إخوته أشبال المستقبل وليقبع هو في خانة الشك والرذيلة.......