البلدان الديمقراطية وخصوصاً المتقدمة منها تعتمد أنظمتها الحاكمة في تسيير أمور الدولة على مبدأ المشاركة الجادة والفاعلة للحزب أو مجموعة الأحزاب المعارضة في إعداد البرامج الاستثمارية ورسم ملامح خطط العمل والإنتاج وتقديم كل مايتم إعداده من تصورات من قبل الحزب الآخر الذي نسميه نحن «معارضة» ولكنه هناك يعتبر رديف السلطة.. تقديم ذلك إلى الحكومة «الحزب الحاكم» لدراسته والاستفادة منه بما يخدم المصلحة العليا للوطن.. بمعنى أن المعارضة هناك لاينتهي دورها «الخدوم» بمجرد خسارتها الانتخابية ولكنها تظل على اتصال مباشر وغير مباشر وعلى تواصل دائم ومستمر مع الحزب الحاكم وتضع كل إمكانياتها وقدراتها وإبداعاتها في مختلف مناحي الحياة تضعها أمام الدولة التي لاتجد هي الأخرى أي مانع لديها في أخذ ذلك بعين الاعتبار ولاتعتبر أن في ذلك عيباً أو عاراً عليها ولايخالج رجالاتها أي شعور بالنقص في حالة الاستفادة من خبرات وقدرات المعارضة مادام ذلك يصب في خدمة الصالح العام للوطن والمواطن. وهذا يدل دلالة واضحة على أن المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار لدى هذه البلدان وشعوبها وأحزابها الرسمية،فإن وجد اختلاف بينها وبين الحزب الحاكم فإنه يكون هامشياً ولايصل إلى درجة المساس بالثوابت الوطنية.. ولنا في الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولاياتالمتحدةالأمريكية دليل إثبات على المنهجية الديمقراطية التي يعتمدها كل منهما في سبيل الحفاظ على شخصية «أمريكا» في العالم ومصالحها العليا داخل وخارج كيانها أرضاً وإنساناً.. وهذا هو سر النماء والتقدم والازدهار في كل المجالات الحياتية المعاصرة فليست الديمقراطية إلا سلوكاً يفسح المجال واسعاً للتسابق على خلق حياة مزدهرة وللتنافس على من يبدع أكثر فيكون مشاركاً فاعلاً في تقدم وطنه سواء كان في صفوف الحزب الحاكم أو في صفوف المعارضة، لأن الديمقراطية ليست سوى سلوك ومنهج حضاري تمارسه الشعوب أفراداً وجماعات وأحزاباً وحكومات بروح يتملكها حب الوطن ومصلحة الوطن ومستقبل الوطن.. وهذا هو الفهم السائد لدى المواطن والفلاح والعامل والمهندس والطبيب والمخترع والعالم وأستاذ الجامعة والشباب والطلاب والساسة الحاكمين وأحزاب المعارضة...إلخ للديمقراطية فهي ليست قضية للتخاصم والنديّة وافتعال الأزمات وحبك الدسائس والمعارضة السلبية الدائمة...إلخ ولكنها مساحة للود السامي المشاعر تجاه الأرض والأمة وتنميتها حاضراً ومستقبلاً.. أي أن المناخ الديمقراطي ليس مجالاً للخصومة التي تؤدي إلى الزج بالوطن في متاهات من فراغ العطاء الذي لايثمر إلا النكسات وعرقلة المد التنموي والحضاري.. وهذا مانلمسه وللأسف الشديد سائداً الدنيا في السلوك الديمقراطي المعارض للسلطة والذي نادراً مانلقاه الرديف الإيجابي للسلطة.. أما في معظم حالاته فإنه سلوك يشبه الديمقراطية ولكنه لايمت لها بصلة.. فالحزب أياً كان معارضاً هو كائن حي بتكويناته الفكرية وإطاره النظري ورؤيته للكون والناس والحياة والوطن.. ومتى ماتجمدت في شرايينه دماء الحياة أصبح في حكم الميت فكرياً وإبداعياً وعطاء وإذن فلا داعي للمكابرة والجعجعات ال«بلاطحين» .. فالمعارضة لاتعني الوقوف الضد، ضد كل مايحققه الحزب الحاكم وينجزه وينتجه وضد كل توجهاته وسياساته في السير بدفة التنمية إلى التقدم والازدهار على الأقل من وجهة نظره كما نلمسه في الكثير من التوجهات المعارضة تحت غطاء المناخ الديمقراطي الذي تنعم به البلاد رغم أن هذا المناخ الديمقراطي الذي تتحرك في إطاره المعارضة هو إنجاز محسوب للحزب الحاكم وقيادته الوطنية صانعة الديمقراطية.. ولكن المعارضة بلغة العصر الذي يخطو سريعاً للمستقبل وبلغة الحداثة والتقدم والتحضر المعاصر تعني أن تجهد نفسك أيها المعارض لإبداع وتقديم الأفضل لديك على طاولة السلطة خدمة للصالح الوطني العام لا أن تعارض بغرض المعارضة وتقف وبكل غرور مغالطة لغة المنطق والعقل والدين والأخلاق والحس الوطني تقف ضد كل ما يأتي من الحزب الحاكم ومع كل ماهو ضد الحزب الحاكم الأمر الذي أوقع المعارضة في كثير من المواقف في مأزق الخصومة الصريحة مع الوطن والأرض والإنسان والمنجزات وحتى مع الثوابت الوطنية التي لايجوز الاقتراب منها أو مساسها بما يخدش وجهها النقي. إن مايحزن المرء منا أن تصبح المعارضة مرصداً للأخطاء فقط وترويجها وليتها ترصد المحاسن وتنشرها على الملأ. كما أننا صرنا مع معارضة موسمية الحراك.. فكم يزداد الضجيج وكم تعقد اللقاءات لأحزاب تشترك في السلوك المعارض ليس لدراسة مشروع إنمائي ستقدمه للحكومة وليس لمراجعة موقفها من أحداث مرت بها البلاد،وإنما لبحث حصتها في اللجان الانتخابية الأصلية أو الفرعية أو الإشرافية فهو أقصى ماتحاور من أجله لدرجة صار مشروع «الحصحصة» في المواسم الانتخابية هو ماتبدع فيه المعارضة بالحوار والتواصل والاتصال وصولاً إلى الهدف.. وكأن الحصة في تعداد اللجان هي الضمان للفوز بأغلبية مقاعد البرلمان.. وهذا وللأسف الشديد مانعاني منه في مجتمعنا السياسي الديمقراطي في شقه المعارض بالشراكة.. أما الحرص على خدمة هذا الشعب والمشاركة في تحقيق منجزاته العظيمة التي يبني صروحها الحزب الحاكم منجزاً تلو الآخر، أو الحرص على نيل ثقة الشعب عن طريق إبداء حُسن النوايا للوطن فهذا مانفتقر إليه في لغة الحراك الديمقراطي المعارض وكلنا أمل في الله سبحانه وتعالى ورجاء فيه أن يمنحنا القدرة على اللقاء المشترك حزباً حاكماً ومحكومين ومعارضة وطنية صادقة .. اللقاء ليس من أجل «الحصحصة» ولكن من أجل إنجاز مشروع بناء الوطن..