مايحدث لغزة من حصار شامل ظالم، يعبر عن حالة الوهن التي تعيشها الأمة، بل التي تفرضها الأنظمة على الأمة التي استبدلت العزة بالذل، والكرامة بالمهانة، والسيادة بالاستلاب، والاستقلالية بالتبعية، وتنازلت عن مسئولياتها تجاه الشعب العربي في أقطار الأمة، وارتضت بدور التابع المقتفي أثر خصوم الأمة وأعدائها، واعتبار ذلك الأثر موجهات غير قابلة للنقاش وليس للمغايرة. وإلا فليقل لنا من يخالف هذا الرأي: لماذا تتحول غزة العربية المسلمة إلى سجن كبير، وإلى ساحة واسعة للموت لنقص حاد في الدواء، وشحة قاتلة في المواد الغذائية، ومع أن المقاومة بفصائلها قد قبلت بمايسمى هدنة مع العدو الغاصب مقابل انقاذ الأهل في غزة، إلا أن هذه المهزلة لم تحقق المرجو منها، وهذه النتيجة لم تكن غير متوقعة فالعدو الصهيوني، الغاصب للأرض والتاريخ الذي يرى في غزة بخاصة وكل فلسطين بعامة، وكل انسان فلسطيني مقاوم أو غير مقاوم ملمحاً لتاريخ ينبغي طمسه وإزالته، ولذلك فهو يعمل بكل مايملك من طاقة وقوة لتضييق أسباب الحياة على أهلها بماتبقى من فلسطين العربية التاريخية ليسارعوا إلى الهجرة، وترك الأرض والثروة، ليجهز عليها ويغتصبها كما فعل مع سابقتها ومن ثم يواصل صهينة الأرض والهوية، ويسير في تنفيذ مخططه الكبير الذي يعلن بين الوقت والآخر بمسميات وعناوين مختلفة في مفردات العناوين ولكنها معبرة عن ذات المضامين التي حملها أول مشروع استهدف اقتلاع شعب من أرضه، وطمس هويته، وإقامة كيان صهيوني يمتد على الخارطة العربية ويؤدي بفعل الأمر الواقع إلى شطب الأمة العربية من التاريخ، وشطب الوطن العربي من الخارطة.. ولذلك جاءت المسميات الجديدة دالة على هذا المعنى بوضوح، عبر مشروع الشرق اوسطية. والشرق الاوسط الكبير، والخارطة السياسية الجديدة للمنطقة، والسلام والتعايش، ومشروع الدولتين، دولة بقوة خارقة وقدرات فائقة، ومساحة واسعة من الأرض والخيرات، ودولة هي دويلة، فارغة من الموارد، ضعيفة بكل المعاني، وفاقدة للقوة والقدرة وعلى مساحة محدودة من الأرض، تنتهك عروبتها مستوطنات صهيونية، وتركعها القوة الاقتصادية والعسكرية للدولة التي يريدونها جارة لها.. وهم يريدون أن تتزعم هذه الدولة الاصطناعية المنطقة التي يسمونها «شرق أوسط» وبمايحول دون استعادة الأمة لدورها بأي قدر أو درجة، ويضمن استمرار تدفق خيرات الأمة وثرواتها إلى خزائن الصهيونية العالمية في واشنطن، ولندن، وكل مواطن الصهيونية العاملة في هذا المشروع كل بقدر جهده واستحقاقه، ولكنه بالتأكيد ليس بمقدار مايذهب إلى الدولة الأم للصهيونية «امريكا» مع السماح للمتعاونين مع المشروع في المنطقة مايقيم وأدهم ويعينهم على الاستمرار بالحياة دون أن يمكنهم على تكوين قوة وإرادة بأي حال من الأحوال. من هنا يلمس المدقق بالاوضاع الراهنة، ان غزة تحاصر من الأهل وأبناء العمومة وبشدة متناهية، تحت دعاوى الالتزام بمعاهدات ماأنزل الله بها من سلطان، مع أن العدو يفتك بكل حي في غزة وغيرها ويعمل على نحو مخطط ومدروس ومجدول لتصفية المقاومة ورموزها، ويعذره الجميع لأنه يدافع عن نفسه وبقائه، ياسبحان الله وكأنه هو المالك للأرض والفلسطينيين وفدوا عليه وغزوه وأرادوا الاستيطان في أرضه وتهجيره.. انها مهزلة واضحة ومقروءة ولم تعد تنطوي عى أحد، بل حتى على الاطفال الذين لم يلجوا بعد عالم الدراسة والتعليم.. وماعلى الحكام العرب إلا العودة عن مايسمونه تعاوناً من أجل مايسمى ظلماً وعدواناً «سلاماً» والاقلاع عن سياسة الاستسلام والتسليم لقوى الهيمنة ، والطغيان العالمي، واتخاذ قرارات جريئة وتاريخية لدعم المقاومة، وفك الحصار عن غزة وفرض الحق الفلسطيني على كل العالم، معتمدين على ذاكرة الأمة التي تسكن اجيالها، والتي لاشك ستكون سنداً لهم وداعماً لقراراتهم، وستكون جحافل جيوشهم تقاتل الطغيان وتثبت سلطتهم، ولا أعتقد أن بمقدور قوى الطغيان ان تشن حرباً على الأمة، فهي قد أثبتت عجزاً لاينكره أحد بمافيهم الغزاة أنفسهم في العراق، عجزاً أكد فشلهم في انتزاع روح المقاومة من صدور أبناء الأمة وضمائرهم، الذين أثبتوا بسيول من الدماء المتدفقة ان حريتهم وسيادتهم واستقلالهم هي أغلى من كل زينة زائفة يسعى الغزاة والطغاة إلى فبركتها اعلامياً لإقناع ضعاف النفوس بالحياة الهانئة في ظل وهم أصله حياة خالية من كل المعاني الانسانية والمضامين المعلن عنها في مصطلحات الوهم الدولي، فالحرية خبرت في العراق سجوناً والديمقراطية دماء وتجريداً لقيم الأمة، وإحياءً للطائفية والمذهبية والعرقية وكل المعاني التي تسكن المستنقعات وتحمل فيروس تدمير المواطنة والوحدة لأي شعب، والحال منظور في العراق، وفي علاقة السلطة في فلسطين بالفصائل، ومع أن السلطة سارت في مضمار ماسمي التفاوض إلا أنها لم تحصل على شيء، بقدر ماقدمت كل شيء وتأثير ذلك على وحدة الصف الفلسطيني لمواجهة العدو الذي لن ينفك إلا بالمقاومة والتحرير، وإن بداية الطريق وأولى الخطوات عليه فك الحصار عن غزة، ولم الشمل الفلسطيني، والتوحد في جبهة واحدة تعلي كلمة المقاومة، وتضع هدف التحرير لفلسطين كل فلسطين الهدف الغالي الذي لايجب التنازل عنه تحت أي ذريعة، ولأي مبرر، مهما كان الثمن، وبغض النظر عن زمن تحققه. إن منظر ذلك الأب على أبواب معبر رفح وهو يهيل التراب على نفسه وطفله قد رسم أمام عيوننا خاتمة النظام العربي الذي سيهيل عليه احرار الأمة التراب، ويدفنونه ان لم يستيقظ وينقذ غزة وكل فلسطينوالعراق، وكل الامة ويسعى إلى امتلاك إرادة من وحي حق الامة ودورها في صناعة الاحداث والمشاركة في صياغة المتغيرات العالمية، والخروج من دائرة الاستهلاك لنواتج المتغيرات ببلادة إلى انتاجها بوعي وهوية عربية خالصة ومنفتحة على الآخر وبمايحفظ الحق العربي ومصالحه، ويضع الأمة نداً لغيرها، وهكذا نستطيع القول: ان حصار غزة عمل يقابل حصار التاريخ. لمن يعمل على استمراره، وتحقيق غاياته، وأعتقد أن خيار التاريخ هو الذي ينبغي أن يكون خياراً للنظام العربي، وهذه نصيحة لعلهم يفيقون. والله من وراء القصد.