كان الأطباء اليمنيون إلى عهد قريب أكثر إنسانية وأقل طمعاً وأشد رحمة ورأفة بالفقراء والمساكين من أصحاب المهن الأخرى وكان بعضهم قد استن سنة حسنة عندما قرروا أن يقفوا ساعات، وبعضهم أياماً لصالح الفقراء من المرضى مجاناً، لوجه الله الكريم كان ذلك أيام أن كانت عياداتهم الخاصة خالية من الزبائن فلما فتح الله عليهم وامتلأت عياداتهم بالمقتدرين وغير المقتدرين، اعتبروهم جميعاً مقتدرين، لا بد لهم جميعاً أن يدفعوا رسوم المعاينة..!! فهل كان موقف الأطباء من الفقراء أيام ذاك، موقفاً إنسانياً يمليه الضمير والشعور بالواجب واستجابة لنداء العقيدة في وجوب الزكاة والصدقة والإحسان إلى الناس والرأفة بالمساكين.. أم كان ذلك موقفاً دعائياً تكتيكياً تمليه المصلحة على غرار الإعلانات التي يدفع أصحابها الملايين من أجل التعريف بها وترويجها؟ إنني أميل إلى تصديق الاحتمال الأول، فالأطباء في معظمهم كانوا طيبين ولم تكن المادة ولا الأطماع قد نفذت إلى أعماق نفوسهم حتى تفسدها ولا إلى عقولهم فتحيلها إلى عقول صخرية ولا إلى قلوبهم فتفقدها آدميتها في تعاطفها مع من ابتلاهم الله بالمرض العضال وهو سبحانه وتعالى يعلم أن جيوبهم فاضية لا يملكون شيئاً، وهنا تتجلى حكمة الخالق الحكيم لينظر ماذا يفعل الذين ابتلاهم الله بالعلم والخبرة في العلوم الطبية والرزق الوفير، ماذا يفعل أمثال هؤلاء مع من ابتلاهم بالمرض والفقر والضعف والوهن؟؟ هل يعطف أولئك على أمثال هؤلاء؟ أم يقولون مثلما قال قارون: «إنما أوتيته على علم عندي»؟؟ هل يعلم أطباؤنا أنه كان يتعين على الطبيب في العصر العباسي أن يعالج كافة سكان الربع الرشيدي القاطنين أو المسافرين والعمال، وكان الوقف يقدم العلاج مجاناً يومي الاثنين والخميس لجيران الربع الرشيدي من أولاد الواقف والغلمان الذين أطلقهم والفلاحين والمزارعين في أوقاف الربع الرشيدي، وإذا ما تدهورت صحة أحد المسافرين فإن على المتولي أن يحدد مكان استراحته، ليتولى الطبيب معالجته، ومن ثم مواصلة سفره. فبالله عليكم يامن تشيدون بمنجزات الحضارة الغربية هل تجدوننا نتقدم أم نتأخر ونحن نلهث خلف أفكارهم وثقافتهم فيما صدروه لنا من قيم أخلاقية وسلوكية الأمر الذي جعلنا نتخطى المرضى والمصابين الجرحى في أقسام الإسعاف لا يلتفت إليهم الأطباء إلا إذا وجدوا من يدفع حق الطبيب وحق المستشفى وحق الممرض وحق الكناس والمنظف وحق الذي يغسل الدماء وينظف جيوب المرضى من وسخ الدنيا. كانت دار الشفاء أو المستشفى وحدة منفصلة ومجهزة في الربع الرشيدي باعتباره كلية طبية، ذلك أن كل طبيب ممارس كان له خمسة عشر من الطلبة الدارسين لعلوم الطب.. فهل يوجد اليوم من الأطباء من يهتم بطلبة الطب في إعدادهم وتأهيلهم؟ لا يوجد..!! إما كبراً واستعلاءً أو جهلاً وانصرافاً عن الاهتمام بتأهيل الطبيب لنفسه أو لغيره.. فقد اكتفى بعضهم بالحبتين «علم» علقت في ذهنه أيام الدراسة فما حاجته للمزيد منها؟! كان على طلبة الطب مواصلة الدراسة على مدى خمسة اعوام ليحصلوا على شهادة تمنحهم حق ممارسة الطبابة، وإلا فإنه لم يكن من حقهم ذلك.. كان ذلك حالنا مع الطب والأطباء منذ أكثر من ألف عام حينما كانت أوروبا تغط في سبات عميق فلما استيقظت تعلمت من العرب كل شيء، ثم أنكرت عليهم أن يكون لهم دور في أي شيء وكان لزاماً على الطلبة أثناء ممارسة معالجة المرضى «بعد الظهر أيام الاثنين والخميس» أن يكونوا مساعدين للطبيب، أي: أن يتلقوا في الصباح الدروس النظرية في الطب، ويمارسوا الطب عملياً بعد الظهر إلى جانب الطبيب الأستاذ، إضافة إلى ذلك هناك معيد إلى جانب الأستاذ يساعده في التدريس ومعالجة المرضى وإعداد الأدوية. لذلك ينبغي علينا إذا تكلمنا عن «علم الطب» أن نضع في اعتبارنا أن الخدمات الرائعة والإسهامات الجليلة التي قدمها علماء المسلمين لهذا العلم هي التي أدت إلى إنعاش العلوم الطبية، بل إلى بعثها بعد موت طويل.. ليس ذلك وحسب وإنما استطاع علماء الإسلام أن يضيفوا عليه إضافات رائعة ونظريات بديعة خلاقة، كان ذلك حين تربعوا على عرش المعرفة حقباً طويلة من الزمن لا منازع لهم فيها، وظلوا كذلك اساتذة أوروبا أكثر من ستة قرون.. هل تريدون شهادة على ذلك من بني جلدتهم؟ اقرأوا هذا الاعتراف الذي صرح به الفيلسوف البريطاني «ه.ج. ولز» قال: «لقد ازدهر علم الطب والتداوي عند المسلمين على حين كان الأوروبيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، إذ إن الكنيسة كانت قد حرمت عليهم وحصرت التداوي في زيارة الكنائس والاستشفاء بذخائر القديسين وبالتعاويذ والرقى التي كان يبيعها رجال الدين، فقد كان جراحو المسلمين يزاولون العمليات الجراحية بطريقة فنية علمية». لقد استطاع الغربيون في أوروبا وأمريكا أن يزوّروا التاريخ ويقلبوا الحقائق ويشوهوا ثقافات الأمم والشعوب ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا أن يحجبوا شمس الحقائق عن العالم.. فمن أراد الدليل على كذبهم وتزويرهم فليقرأ التاريخ وليتعرف على الحقائق الدامغة من خلال قراءة الكتب والمؤلفات التي كتبها المنصفون والمستنيرون من كل الثقافات وليس من الكتب المسمومة التي ألفها الحاقدون والمغرضون بقصد الإساءة إلى تاريخ العرب والمسلمين