ثمة مثلث مفقود في حياتنا السياسية والاجتماعية، ومع ذلك نجد الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات والندوات والجلسات الخاصة والعامة، الحزبية والشعبية، السلطة والمعارضة تتحدث وباستفاضة وحماس كبيرين عن الحكمة وأصالتها فينا والحوار الذي أصبح لغة الجميع، وتطور يمنياً حتى أصبح صراخ طرشان، أما حب الوطن فحدّث ولا حرج.. ما من شك في أن الحكمة قد شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لليمنيين ونعتهم الناس بها حتى صارت لصيقة بهم، لكن المفجع أننا تركنا الحكمة وراء ظهورنا. ذهبنا نحكيها للأجيال على أنها ماضٍ وتاريخ مجيد، وليس للحاضر حظ فيها؛ بترناها عن الواقع المعيش، وغدت الحياة السياسية والاجتماعية خالية من مضمونها، فاخرنا الآخرين بها، وعكست حياتنا السياسية والحزبية نقيضها. الحكمة تستدعي تعاطينا مع الحياة بمسئولية وتجرد من الذاتية، نغلب الواجبات على الحقوق، نبحث عن نقاط الاتفاق مع الآخرين، ونترك مواطن الاختلاف الحادة والمزعجة للبلاد والعباد، حتى لا تستهلك أمور قد لا تكون ذات أهمية ووجودها ليس بالضرورة الملحة، لأنها تتحول تلك النقاط الشائكة مع مرور الزمن والتقارب النفسي والوطني إلى قضايا قابلة للحل والفعل والإضافة المميزة، ثم لا تلبث أن تتحول إلى مكاسب وطنية تعبّر عن أصالة الحكمة فينا وليس نقيضها. الحوار هو الآخر طموح وطني عطّلته بعض القوى في مجتمعنا بكثرة الحديث عنه شكلاً مفصولاً عن مضمونه وقواعده وأخلاقياته. الجميع ينظّر للحوار ثم يتهرب منه وينقلب عليه، ولا يرضى بنتائجه، كأن الحوار قد أصبح في حياتنا الحلم المستحيل، وغدت أحزابنا حاطب ليل. نتشدق بالحكمة والحوار؛ وإذا بنا نخرج مذعورين نلعن الماضي والحاضر والمستقبل، ناقمين على المجتمع، ندعو عليه بالويل والثبور لمجرد أن خالفنا الآخرين فيما يرون، لو استدعى الأمر أن نغرق السفينة بمن فيها مقابل مصالح ومكاسب آنية لفعلنا، مع أننا نفاخر بالحكمة ليل نهار. الحكمة والحوار وحب الوطن؛ المثلث المطلوب برهنة وإثبات وجوده من قبل كل الأطراف السياسية في الساحة اليمنية، سلطة ومعارضة، وألا يخرج اتفاقنا أو اختلافنا عن ذلك. ولا يمكن ان يقودنا هذا المثلث إلى طريق مسدود، مثلما أنه لا يمكن في المقابل ان يدفع بطرف من الأطراف إلى العنف والدعوة إلى الفرقة والشتات واستنهاض الفتنة وثقافة الإحباط والكراهية، لأن الساعي إلى ذلك المستنقع لا حظ له من الحكمة ولا علم له بفن الحوار وليس في قلبه وضميره حب للوطن وخوف عليه من عاديات الزمن ومصائبه. الإنسداد الأخلاقي في العمل السياسي في ساحتنا لا يخدم أحداً، ويعطي صورة قاتمة عن فرقاء الساحة السياسية؛ وأنهم لم يكبروا بعد، مازالوا دون الحراك الديمقراطي والنقلة النوعية المنتظرة منهم، لأن عقدة العراك وثقافة الإقصاء مازالت عالقة في وعيهم وبواطنهم ومسيطرة عليهم من حيث لا يشعرون. أتمنى أن نبرهن جميعاً على أننا نحب وطننا، وأن مصالحه العليا فوق مصالحنا، نختلف ونتفق من أجله، نبحث عما ينفع الناس ويصلح أحوالهم ويحسّن من معيشتهم ويخفف من وطأة الظروف القاسية عليهم. لا أن نطيش ونمارس الجهالة ويرمي بعضنا بعضاً، ويخرج بعضنا عن حلمه وكياسته فيتحول إلى غراب ينعق بالخراب.