بالأمس البعيد حطّت القوافل اليمنية رحالها في جنوب شرق آسيا، ورسم التجار اليمنيون حينها لوحة حضارية جسدت ثراء الوعي لدى هذا الإنسان وعلو كعبه في إتقان صناعة التعايش وكسب ود الآخرين.كانت رحلات تاريخية سجلها التاريخ بأنصع صفحاته وسيظل يرويها للأجيال حكاية واقعية يتجسد فيها النموذج العظيم والشخصية المثالية التي تمثل أرقى معاني الإنسانية ونبل الطباع. التجار اليمنيون أولئك.. شكلوا بأخلاقهم العالية وتعاملهم النبيل سفارة ناجحة للثقافة العربية والإسلامية التي رست على مبدأ عظيم هو حب الخير للإنسانية والتعامل على أساس من رقابة الضمير ومحاسبة الذات، وبالفعل فقد كان ما قدموه هو الصورة الصافية والمشرقة للتعاليم والشعائر الإسلامية السمحة التي نتج عنها امتداد الرقعة الإسلامية وانتشار هذا الدين ليس بحد السيف أو بتفخيخ القوافل وتفجير الأحياء والممرات وإنما كان ذلك تحت لواء القيم والمثل العليا التي تخلّق بها أولئك الرجال، وكان لها أن أصبحت رسول الهداية والإعجاب بديننا الإسلامي الحنيف. وبين قوافل الأمس وقوافل اليوم بون شاسع وهوة واسعة لن يستطيع ردمها إلا أن يتخلق أنموذج جديد يحمل جينات ذلك النموذج وصفاته، ويلح إلحاحاً كبيراً على استحضار تلك العقلية التجارية وتنفيذ أسسها في التعامل مع الآخر وإعادتها إلى الحياة لتصبح من جديد ثقافة رفيعة من شأنها تمييز الإنسان اليمني عن غيره من شعوب الأرض. فقوافل اليوم تتماهى شخوصها في أسراب من المطامع والحيل التي تفجر كل يوم دهشة الإنسان الآسيوي الذي يقدس العمل ومعه يقدس فضيلة الصدق.. إن تجار اليوم يعرضون بضاعة أخرى غير تلك البضاعة الأخلاقية التي اعتز بها تجار الأمس وروجوا لها هناك.. فتجار عصرنا هذا - بفلتات ألسنتهم وتندراتهم في المجالس ودلائل أخرى يحكون عن أساليب وخدع تجارية والتواءات يلقِّنونها ما استطاعوا أضرابهم من تجار المعمورة، وهم بذلك يزرعون غرس المصلحة الذاتية المتجردة من كوابح الأخلاق ونزعات الإنسانية وإنها لبئس الرحلة أو القافلة تلك التي يقودها الحمق إلى بث صور مشوهة عن طبيعة الثقافة العربية وأخلاق المسلمين. لقد تجرّد تجار اليوم من كل أخلاقيات التجارة والتصنيع وتوغلوا كثيراً في الغش والتزييف وكان لمبدأ السوق المفتوح أن عمق في هؤلاء التجار شهوة الاستنزاف وسياسة الاحتكار حتى غدا المستهلك مع ذلك وكأنه حقل تجارب لسائر الأهداف الجنونية في الإثراء والربح السريع أو غير المشروع. والغريب في الأمر أن هؤلاء التجار ينقلون لنا بأفواههم ما يصور لنا عظمة الإنسان الآسيوي الذي يجلّ كل أخلاقيات البيع والشراء ويلتزم الصدق في التعامل ويتمسك بجملة المبادئ والنظم الإسلامية التي تحكم تعاملاتنا وكذا الإجلال المتواصل للشعائر الإسلامية التي تأكد له من خلالها سمو مكانة هذا الدين وجلالة قدره، فهو دين الصدق والمحبة والإخاء والتعاون والتراحم. وثمة أكثر من شاهد مادي يثبت أن قوافلنا التجارية في هذا الزمان لا تحمل هوية حضارية تجسد من خلالها عراقة الأصل وكرم الشمائل وطيب المنبت، فهي أقل من أن تكون سفيراً للنوايا الحسنة وإكبار معاني الإنسانية في النفوس، وحسبنا من عبثها ونزقها أن يكون جنوب شرق آسيا اليوم ساحة للصراعات التجارية والتحاسد النشط في رداءة المنتج وتزييف الدواء، وتسميم الأغذية، بل يكفينا منها غوغائية تلفحنا نارها كلما أعاد تجار اليوم سردها علينا من جديد تندراً واستخفافاً وكأن لسان حالهم يقول «إنما بعثنا لإفساد الإنسانية»!!