قد تتخذ المسيرات والمظاهرات مؤشراً على ديمقراطية الدولة، لكنها لا يمكن أن تكون كذلك حين تكون ساحة ممارستها بلداً تحت نير الاحتلال، إذ أنها تتحول إلى مؤشر على الثقافة السلمية التي يتحلى بها المتظاهرون أنفسهم. ومن واقع مفردات تاريخية فإن اليمنيين ليسوا من الشعوب الحديثة على التظاهرات، ففي عام 6391م نفذ العمال اليمنيون المغتربون في بريطانيا أوسع مظاهرة في مدينة «بورت سموث» البريطانية، إثر تعرضهم لمعاملة عنصرية من قبل سلطات ميناء نفس المدينة، التي لم تر بداً من زج عناصر تخريبية بينهم لتبرير قمعهم أمنياً والقضاء على مطالبهم. وفي مرحلة الستينيات من القرن الماضي لم تكن شوارع عدن تعرف السكون بسبب المسيرات والمظاهرات التي كانت تنفذها القوى الوطنية في إطار مناهضتها لقوى الاحتلال البريطاني.. وكذلك شهدت ساحة شمال الوطن مظاهرات تطالب برحيل الاحتلال البريطاني، ومنها ماخرج احتجاجاً ضد ممارسات بعض ضباط القوات المصرية، وأخرى لمطالبة الرئيس السلال رحمه الله بإطلاق سراح عناصر نضالية جرى اعتقالها بسبب خلافات سياسية.. الأمثلة كثيرة على المسيرات والمظاهرات التي حدثت تحت مظلات دولة يحكمها الاحتلال أو لم تكن أنظمتها تمارس سياسة ديمقراطية تمنح حقاً دستورياً للمواطن بحرية التعبير عن الرأي من خلال تنظيم المسيرات والتظاهرات، الأمر الذي يؤكد أن تلك الممارسات تمثل «ثقافة رفض» تحلت بها الفئات الواعية في اليمن رغم أنها كانت تجابه بالحديد والنار من قبل السلطات. وفي وقتنا الحاضر ظهرت كتابات وشخصيات ومنابر تسفه عمل الخروج بتظاهرة، وتعتبر مثل هذه التظاهرات والمسيرات بمثابة «ظاهرة صوتية» لاتجدي نفعاً، ولا تغير واقعاً.. وأحياناً نجد من يتهم الأنظمة بتشجيع هذه الممارسات لستر مواقفها السلبية ولاحتواء النقمة الشعبية. وعلى مايبدو أن المسفهين للمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية يحاولون نزع هذا السلوك من ثقافة المجتمع، وتحويله من مجتمع رافض للذل والخطأ إلى مجتمع خانع ومستسلم لكل مايمارس بحقه.. وبالتالي إفراغ الساحة الشعبية من قيمة أخلاقية وإنسانية تترجم إرادتها الحرة، وموقفها المقاوم للظلم والخطأ، عندما يكون مصدره خارجياً، في نفس الوقت الذي تعتبر مناهضة الخطأ الداخلي بالتظاهرة هو ظاهرة صحية، وأداة للضغط على صناع القرار الوطني كما هو حال ردود فعل بعض الاقلام والمنابر على التظاهرة المليونية التي شهدتها صنعاء للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، والمجازر التي نجمت عنه.. متجاهلة حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وبغض النظر عن المسألة المعنوية التي تمنحها التظاهرات، فإنها أيضاً تمثل «ثقافة مقاومة» يجب غرسها في الأطفال في مرحلة مبكرة من حياتهم، لتكون دليلهم في رفض كل مايمس إنسانيتهم وكرامتهم علاوة على أهميتها في ترسيخ علاقات الاخوة والمحبة والتعاون بين أبناء الأمة من خلال شراكة الموقف والألم والهموم.. والقضية أيضاً.. فالصوت العربي الواحد الذي هدر رافضاً الإرهاب الصهيوني هو الرسالة التي تؤكد فشل المؤامرات الدولية لتفتيت وحدة الأمة، وتشتيت شملها وقوتها وإرادتها.. وهو دائماً يتسبب بهزيمة نفسية لأعداء الأمة التي تأبى التخلي عن هويتها القومية رغم كل مايحاك ضدها.