كانوا يجلسون مفترشين أرض الميدان الدائري الفسيح في انتظار من يأتي لقطع رتابة انتظارهم الممل، ليختار منهم من يصلح لإنجاز ما لديه من أعمال البناء أو غيره، وأمام كل واحد منهم كانت تنتصب عُدّته من مختلف أنواع أدوات البناء.. وبعد طول انتظار وصل واحد من المقاولين؛ فأخذ يتفحصهم واحداً واحداً حتى لا تتكرر أخطاؤه في الاختيار، حيث كان يجد غير مرة أن الذين يقع عليهم الاختيار كسالى أو بلداء بطيئي الفهم والاستجابة. وكان المقاول يردد على مسامع أصدقائه أن اختبار العمال ليس سهلاًً؛ فهم يتشابهون في الأجسام والشحوب والنحافة، لكنهم يتفاوتون في درجة التجهم أو العبوس، وقلما تجد البشاشة أو اللطف في التعامل. كانت نظراتهم جريئة وملحة وناقمة، كأنهم يستنكرون أن يكون سوقهم بائراً في كثير من الأيام، وكان بعضهم يلجأ لتغطية غيظه وحنقه من وضعه وسوء حظه أن يمارس التهريج وإطلاق الكلام على عواهنه كلما استبد به اليأس في الحصول على عمل. عبارات نابية وأصوات منكرة يطلقها أصحابها لا يعلم إلا الله ماذا يجيش في صدور أصحابها من هموم وأهوال، وكان هناك في الزاوية البعيدة شاب صغير معزول عن أصحابه وربما كان معزولاً عن العالم أجمع.. كانت عدّته الوحيدة «مجرفة» يقبض على ذراعها بكلتا يديه، يظن من يراه أنه لا يعيش حياته إلا بائساً محروماً. وبعد أن اختار صاحب العمل العدد الذي يريده من العمال وقف أمام صاحبنا الشاب من باب الشفقة وليس طمعاً في الاستفادة منه في أي عمل يسنده إليه، لكن الشاب هبَّ واقفاً كأنه جندي فوجئ بقائده يقف أمامه، ثم أخذ ينفض التراب عن أسماله، فأثار نقعاً من الغبار في وجه المقاول صاحب العمل. من حسن الحظ أن المقاول لم يكن من أولئك المقاولين الأجلاف غليظي القلب، بل كانت له نفس تواقة للخير ويغلب عليها طبع الرقة، فمسح على رأس الشاب بعطف شديد وألحقه بالآخرين، ثم يقول - أي المقاول-: لم أندم على اختياري لهذا الشاب ؛فقد بذل جهداً فوق طاقته في إنجاز ما أوكل إليه من عمل.. سأله: ما اسمك يا فتى؟!. قال: نادر . قال له: فعلاً أنت «نادر» نادر من ؟!. قال: نادر سعيد. قال له: أما هذه الأخيرة «سعيد» فبينك وبينها بعد المشرقين.. حصل نادر على مكافأة سخية من المقاول «الإنسان» قال له: خذ أجرك يا بني قبل أن يجف عرقك، فأنا أرى العرق قد بلل كل قطعة من أسمالك، وتعال حدثني قصتك يا نادر، فأنت تبدو عليك النباهة والفطنة، فلماذا تعمل في هذه المهنة بدلاً من أن تدخل المدرسة أو تواصل دراستك إذا كنت قد بدأتها؟!. يختلج وجه نادر ويحمرّ خجلاً ويعاوده الانكسار والشعور بالبؤس والإحباط، فيجيب بصوت خافت منكسر: ومن سيعلمني، أقصد أنا فعلاً أريد مواصلة دراستي لكن والدي لا يستطيع الإنفاق على تعليمي بسبب قلة دخله وكثرة عوله؟!. لقد كان بإمكاني مواصلة دراستي دون عناء كبير لو بقيت مع أسرتي؛ لكن الجامعة أبت إلاَّ أن تفرق بيني وبين أسرتي، فهي تريد معدل 57% ولم تتزحزح عن موقفها، فكان لابد أن أنتقل إلى جامعة في محافظة أخرى تقبل المعدل 37%.. فمن أين لي قدرة على مواجهة أعباء مصاريف السكن والغذاء والملازم؛ وغير ذلك من النفقات؟!.. وقد تسألني: لماذا لم أحصل على المعدل الكبير الذي لا يجعلني تحت رحمة «المنظرين» في الجامعات اليمنية، ممن لا يهتمون إلاَّ بنفوسهم ومصالحهم الشخصية، أما الطلبة فليذهبوا إلى الجحيم!!. أقول لك السبب في عدم حصولي على معدل أكبر هو أولاً أنا لا أعرف الغش في الامتحانات؛ لكن أهم من ذلك كله هو أنني كنت أقضي الليل إلاَّ قليلاً منه في المذاكرة، ثم أستيقظ في الصباح الباكر «ألوي» وأدور في الشوارع والأسواق أبيع البطاط والبصل وخضروات أخرى، لكن ظهري «انتخع» من «دهف الجاري» وسقطت مريضاً. وبعد أن تماثلت للشفاء دلوني على بيع الصحف والكتب والمجلات، أضعها في الجاري وأتنقل بالجاري من ركن إلى ركن، حيث أقضي ساعة أو ساعتين في الموقع الواحد، حسب إقبال الناس على شراء بضاعتي.. كانت فكرة طيبة، لكنني وجدت أن إقبال الناس على شراء الصحف والمجلات والكتب أضعف بكثير من إقبالهم على شراء البصل والبطاط والباذنجان وغيره.. فحاولت أن أجمع بين الصنفين؛ لكن لم أستطع المواصلة فقد صار «الجاري» ثقيلاً. اكتشفت يا عم أن الناس لا يريدون أن يقرأوا.. هيا بالله عليك من أين أشتري لهم رغبة في القراءة حتى أقدر أعيش من العائدات الضئيلة جداً من بيع الصحف والمجلات؟!. كنت أتمنى يا عم لو أن وزارة الإعلام والثقافة أو حتى الشئون الاجتماعية يتنبهون لمن هم أمثالنا فيقيمون أكشاكاً لبيع الصحف والمجلات دون أن يكون توزيع هذه الأكشاك للمحاسيب والأقارب والأصدقاء؛ حتى دون أن يكونوا في حاجة لها بل يروحوا يؤجروها لآخرين!!. لماذا لا نجد يا عم نحن الطلبة في الثانوية العامة وفي الكليات المختلفة من يرفق بحالنا ويقدر ظروفنا.؟!.. في النهاية وجدت نفسي مضطراً لشراء «مجرفة» حتى أستطيع مواجهة الظروف المعيشية القاسية، ولو كنت أعيش في المحافظة حيث أسرتي لكان الحمل أخف والأعباء أقل فداحة؛ لكن الجامعة لا قلب لها، فأرجوك يا عم اقبلني عاملاً عندك حتى لا يضيع مستقبلي وأضيع معه. وكيف تستطيع يا بني أن توفق بين العمل الشاق الذي تبذله أثناء النهار وبين مواصلة الدراسة في الجامعة.. إنهما ضدان لا يجتمعان؟!. قال نادر بإصرار وعيناه تكاد تغص بالدمع: لابد..لابد لي من وسيلة لمواصلة الدراسة.. فهل نجد من يستطيع إرشاد سفينة هذا الشاب الطموح إلى مرفأ الأمان؟؟ أم نترك سفينته تواجه كل الرياح والأعاصير كأننا غير موجودين؟؟ كأننا عدم؟!