يعد «توافق الآراء» واحداً من المفاهيم السياسية الحديثة نسبياً، وهو يمثل طريقة لاتخاذ القرارات في المجال السياسي بتوافق مختلف الأطراف أو الفاعلين السياسيين داخل النظام السياسي، ويختلف هذا المفهوم اختلافاً بيناً سواء من حيث نتائجه أو من حيث العملية التي تسفر عنه عن مفهوم «الإجماع» ذي الحمولة الدينية. لأن الإجماع يشترط إقصاء وتغييب الآراء الناقدة والمعارضة داخل الحقل السياسي، وهذا الأمر متعذر بل ربما يكون مستحيلاً، كون المجال السياسي يعد مجالاً للتعدد والاختلاف والاحترام المتبادل. ويقتضي توافق الآراء حدوث الحوار والتفاوض أولاً، ولا وجود له بدونه، فهو ثمرة جهود متأنية وتنازلات متبادلة تقدمها جميع الأطراف الداخلة في الحوار السياسي، والتوفيق بين مواقف كانت تبدو في بادئ الأمر متعارضة، وهو يتم في أغلب الأحيان عقب مناقشات عميقة وماراثونية تجري وفقاً للأصول والقواعد المرعية في النقاشات والحوارات والمفاوضات السياسية، ويصدر بعد اعتماد التعديلات أو رفضها من كافة الأطراف المشاركة في تلك الحوارات والمفاوضات. وقد عرفه القاموس الفرنسي «ليتريه» على أنه: «مصطلح فسيولوجي» «أي طبيعي» بمعنى التوافق الحيوي بين أجزاء الجسم المختلفة، أو علاقة مختلف أجزاء الجسم بعضها بالبعض الآخر، وتعرف أكثر تحت اسم التعاطف، أي أن التوافق يعني التعاطف بين مختلف أجزاء الجسم»، وما إن يختل توازن الجسم، لأنه فقد جهازاً واحداً من أجهزته، حتى يتعرض الجسم بأكمله للخطر، بسبب اختلال النظام التوافقي بين تلك الأجزاء، وهو ما يدفع الأطباء - في بعض الحالات - إلى بتر أحد الأعضاء من جسم الإنسان نتيجة اختلال التوافق بينه وبين باقي الأعضاء الأخرى، أو لأنه بات يشكل تهديداً على تلك الأعضاء. ومن ثنايا العلوم الطبيعية انتقل مصطلح «التوافق» مع عدد غير محدود من المصطلحات والمفاهيم العلمية إلى حقل العلوم السياسية، ولقد قام الباحثون بتكييفه بما يتناسب مع طبيعة موضوعات الحقل السياسي، وصار يستخدم للتعبير عن الرأي النابع من سلسلة المفاوضات ولوصف الإجراءات التي تتبعها الأطراف السياسية من أجل «الوصول إلى نتائج مقبولة من جميع الأطراف السياسية حول مختلف القضايا محل النقاش». كما يعرف قاموس أكسفورد «توافق الآراء»، بأنه «الرأي الجماعي، وليس الرأي الإجماعي، الذي يتوصل إليه مجموعة من الأشخاص» أو الأطراف والقوى السياسية فيما يتعلق بتوافق الآراء في المجال السياسي. وتوافق الآراء السياسية بالمعنى المشار إليه سابقاً أصبح مطلباً ملحاً وضرورة كبرى من ضرورات العمل السياسي داخل كثير من مجتمعاتنا العربية ، وفي مجتمعنا اليمني بصفة أخص، لجملة من الأسباب، سنذكرها بصورة مجملة في هذه التناولة. فالملاحظ أن عدداً من مجتمعاتنا العربية في المشرق العربي إلى المغرب تعيش، وبمستويات متباينة، مرحلة تاريخية خطيرة من الأزمات السياسية الداخلية، كثير منها ناجم عن انعدام توافق الآراء السياسية أو غياب الاتفاق المبدئي والأساسي على معظم القضايا المصيرية لأبناء المجتمع العربي الواحد، وتتأثر فيها مواقف شتى الأطراف العربية الفاعلة والمؤثرة، بمشاغل عديدة ذات طابع سياسي وعقائدي، وتنبثق من منطلقات ومداخل مختلفة ومتعددة، وحدوية من خلال رفع بعض الأطراف للشعارات الإسلامية والعروبية أو القومية، وتجزيئية ضيقة تقوم على بعض الأسس المناطقية والحزبية والمذهبية والمصلحية المتضاربة. وقد لا نجانب الحقيقة كثيراً، إن قلنا: إن كثيراً من مجتمعاتنا، ونتيجة مباشرة لغياب توافق الآراء السياسية بين الأطراف المختلفة أو استحالة الوصول إليه، باتت تعاني أزمة ثقة حادة وتبادل الاتهامات الحقيقية منها والزائفة بين الأطراف المكونة للمشهد السياسي داخل المجتمع العربي الواحد وبطرق متفاوتة الشدة، وتشهد قطيعة متفاقمة بين تلك القوى السياسية مع مجتمعاتها أبرز مظاهرها وتجلياتها القطيعة شبه الكاملة مع واقع وتوقعات وطموحات الإنسان والشارع العربي والإسلامي، الأمر الذي نجم عنه تناقض حاد في أعداد المواطنين المهتمين بالمشاركة السياسية، وغياب المتابعة للشأن السياسي واستحقاقاته المختلفة. وبالعودة إلى شئون مجتمعنا اليمني والتطورات التي شهدها خلال الأيام الماضية، وبالخصوص الإعلان عن الاتفاق بين القوى السياسية اليمنية على تأجيل الانتخابات لمدة عامين، لإفساح المجال أمام إدخال بعض الإصلاحات السياسية والقانونية، وما تبعه من تقديم طلب برلماني لتمديد مدة المجلس لعامين آخرين «ليغدو الأطول عمراً بعد تجربة البرلمان اللبناني» وهو الأمر الذي أسعد بعض القوى التي رأت فيه بداية لحل كثير من الأزمات السياسية داخل النظام السياسي اليمني، والاتفاق على برنامج لتنفيذ بعض الإصلاحات السياسية والقانونية، وإتاحة المجال أمام الوطن والمواطن اليمني لتنفس الصعداء والتقاط الأنفاس استعداداً لماراثون انتخابي قادم يبدو أنه سيكون الأكثر تنافساً، كما أزعج آخرين ممن لم يرضهم حصول الاتفاق أو التوافق بين الأطراف السياسية اليمنية، وممن راهنوا على تصعيد الأوضاع والأزمات وصولاً إلى انفجارها، أو على الأقل خلق بؤر فتنة وتوتر دائمة في المجتمع اليمني تتيح لهم حرية الحركة والتدخل في شئون المجتمع اليمني. تبقى الإشارة مهمة في هذا الصدد، إلى أنه ومهما تباينت مواقفنا وآراءنا لجهة الموافقة أو الرفض على كل أو بعض ما جاء في اتفاق اللحظات الأخيرة، فإن المنطق والواقع السياسي يفرضان في بعض الأحيان قبول بعض الحلول والنتائج التي تفرزها الحوارات السياسية، وإن لم ترض الجميع لأنها تدل على نوع من التسامح وحسن النية المتبادل، مع ضرورة التنبيه والإشارة إلى حاجة جميع الأطراف السياسية اليمنية إلى اعتماد سياسة التوافق مستقبلاً، عند الحوار حول تنفيذ بنود الاتفاق السابق، وتحديد سبل الانتقال بذلك الاتفاق من الإطار النظري إلى التطبيق الميداني الواقعي، وتحديد النقاط التي يمكن التوافق حولها، وتلك التي تظل على طاولة المفاوضات والنقاش، مع إبقاء باب الأمل مفتوحاً على كل الخيارات السياسية والدبلوماسية السلمية الآمنة التي تحقق للشعب والمجتمع الطموحات في التنمية الاقتصادية، ورفع مستويات المعيشة والعيش الحر والأمن في وطن موحد. وحتى لا يكون الخلاف حول التفاصيل - وهذا أشد ما نخشاه - ذريعة جديدة لخلق أزمة أو أزمات جديدة، قد تكون أقوى وأشد من سابقاتها. ٭ جامعة إب