هناك حكمة صينية مأثورة عن «المال»، وهي طويلة اقتبست منها التالي : «بالمال يمكنك شراء المنزل وليس الأسرة، ويمكنك جلب الطبيب وليس الصحة، ويمكنك شراء المركز الوظيفي وليس الاحترام، ويمكنك شراء الكتاب.. لا المعرفة» بمايعني أن المال وسيلة وليس غاية من هذا الوجود، ولذا يجب أن يتعامل معه الإنسان على هذا الأساس. ونعتقد أن هذا هو الحال مع كل شيء في هذه الحياة، إذ لكل شيء فوائد، وربما فوائد جمة إن أحسنا توجيهه الوجهة الصحيحة، لكن تحقيق تلك الفوائد رهين بتوفر وتضافر عوامل أخرى تعد ركائز أساسية لتحققه، وقد تكون فوائد محدودة وهامشية إن أسيء توجيهها أو استعملت في غير المقصود منها والهدف من وجودها. ونحسب أن مفهوم حقوق المواطنة - في استعمالاتها الشائعة في أوساط بعض مثقفينا - واحد من كثير من الأمور التي لاتتحقق معها كثير من الفوائد للمجتمع اليمني وللمواطن اليمني نفسه، لأن بعض الناس في مجتمعنا يسيئون استخدامها والتعامل معها، ولا يرون منها إلا جانب الحقوق، ويتناسون جانب الواجبات، مع أنهما صنوان في اللغة العربية لا يكاد يذكر أحدهما حتى يحضر الآخر، إذ تعني كلمة «حق لفلان أو على فلان» وجب له أو وجب عليه، والعكس صحيح. ولذا وجب علينا النظر إلى مفهوم المواطنة من كافة الزوايا التي تحقق الغاية من وجوده. في هذا الإطار يجب التذكير بأن دور المواطن في أي مجتمع من المجتمعات يعد ركيزة أساسية في نجاح أي سياسة عامة تقوم الحكومة بوضعها عبر مؤسساتها المختلفة، وهو يتكامل مع دور الحكومة ويسير معه جنباً إلى جنب وليس بينهما أي تعارض أو اختلاف، وهذا يقتضي ضرورة تضافر واجتماع عدد من العوامل الأخرى التي لاتقل أهمية عنه. منها : طبيعة وحجم ذلك الدور الذي يسهم به المواطن سواء بصفة فردية أم جماعية في رسم تلك السياسات، كما أنه يعتمد وبدرجة كبيرة على نمط الحياة اليومية الذي تعود المواطن على عيشه، ومدى قدرته على تغييره وفقاً للظروف والمتغيرات، فضلاً عن ترتيب أولوياته وما يترتب عليها من قرارات، وأخيراً قد يعتمد على مدى فهم المواطن لطبيعة دوره أو واجبه في إنجاح تلك السياسات. أما كيف ؟ فلأن الحكومة قد تضع كثيراً من السياسات والتدابير المتعلقة بتأمين الجوانب الصحية، وتسخر لتنفيذها الإمكانيات والموارد المادية والبشرية الكافية، لكنها قد تعجز عن كفالة الرعاية الصحية المطلوبة لجميع المواطنين إذا كانوا هم في الأصل لايحفلون بأحوالهم المعيشية والصحية. كما أنها قد تضع عشرات البرامج لأجل حماية البيئة المحلية من مصادر التلوث والعبث الإنساني، ولكنها لاتستطيع أن تحمي البيئة من التلوث إذا كان المواطنون لا يهتمون بنظافة بيئتهم. وقد تضع عدة استراتيجيات تستهدف تحسين معيشة المجتمع والقضاء على الفقر والحد من البطالة، لكنها ستقف عاجزة بسبب استهتار بعض المواطنين بقوانين الدولة المتعلقة بتحديد الأسعار، وأمام تغول البعض رغبة في الكسب السريع وغير المشروع واستشراء الفساد في كثير من مفاصل وأجهزة الدولة، ولن تجد علاجاً لرفض كثير من الشباب العاطل العمل في بعض القطاعات التي تحتاج إلى مجهود عضلي وبدني. وهكذا مع بقية المجالات المرتبطة بالسياسة العامة للدولة. وعليه، فإن لم يتعاون المواطن مع مؤسسات الدولة، وإن لم يظهر قدراً كافياً من ضبط النفس في كثير من المسائل ذات الصلة بالسياسات العامة، فإن السلطات الحكومية ستقف مكتوفة اليدين، عاجزة عن تدبير الشأن العام، وستفشل في تحقيق كافة الأهداف والبرامج التي تضعها لتنفيذ تلك السياسات. بعبارة أوضح تحتاج الحكومة إلى المواطنة الواعية بحقوقها، والممارسة لواجباتها وأدوارها ومسئولياتها. والواقع أن عديداً من الأدبيات والتيارات السياسية والقوى الحزبية في مجتمعنا اليمني تتغافل عن حقيقة أن مفهوم المواطنة خليط متجانس من الحقوق والواجبات لأنهما متكاملان ومتلاصقان، فلايمكن رفع الصوت للمطالبة بإقرار الحقوق ومنح الحريات وفي نفس الوقت رفض أداء الواجبات. ولذا يصبح من الضروري توافر عدد من الفضائل والخصائص التي يتعين أن يتمتع بها المواطن في أي نظام سياسي سواء أكان ديمقراطياً أم لم يكن كذلك، وقد حددت بعض الأدبيات مجموعة من الفضائل التي يجب أن يتحلى بها المواطن، بوصفها واجبات المواطنة، وأهمها التالي : 1) الشعور بالتضامن والولاء، بمعنى أن يبدي المواطن أعلى درجات التآزر والتآخي مع الآخرين، بما ينطوي عليه من إحساس بالانتماء للوطن والمواطنين، فهو واحد منهم ومعهم ولهم. 2) الإقدام والجسارة والجرأة والشجاعة، أي أن يتحلى المواطن بالشجاعة والجرأة التي تمكنه من تقييم أداء من يتقلدون الوظائف العامة، وأن يشارك عن قناعة ورغبة في مناقشة القضايا العامة، وأن يكون له رأي ورؤية في كل ما يجري في مجتمعه الكبير والمحلي. وبعبارة أدق، أن يمارس المواطن حرية التفكير، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية الحركة والفعل والنقد. وتندرج هذه الخاصية ضمن إطار ما يعرف بالرقابة الشعبية على أعمال السلطات المختلفة، وهي السمة التي تميز المجتمعات الديمقراطية عن غيرها من المجتمعات، وهذه الأمور على أهميتها ينبغي أن تمارس دون محاباة أو مجاملة، وبوعي كامل وإدراك تام، وأن تكون ضمن الحيز القانوني، وأن لاتتحول إلى نوع من تصفية الحسابات مع الآخرين، وكيل الاتهامات لهم دون حجة دامغة أو دليل بيّن، وإلا انحرفت عن الهدف المحدد لها، وتحولت إلى معول هدم وتخريب واستنزاف لكل مقدرات الوطن. 3) العدالة والإنصاف، وهي تلك المشاعر التي تمكنه من أن يدرك ويتبين حقوق الآخرين ويحترمها ويقدرها، ومن ثم لايغالي ولايبالغ في حقوقه ومصالحه. ويبدو واضحاً من المشاهدات اليومية أن هذه الخاصية بالذات هي واحدة من الخصائص التي يفتقر إليها العديد من مجتمعاتنا ومواطنينا، إذ من اليسير أن يدرك الإنسان حقوقه، ويطالب الآخرين باحترامها وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها، لكنه يجد صعوبة في احترام حقوق الآخرين، خاصة إن تقاطعت مع حقوقه الشخصية، ويجد صعوبة أكبر في التمييز بين حقوقه وواجباته. 4) التحضر والكياسة والتسامح، وتعني تلك التي تتبدى واضحة جلية فيما يصدر عنه من قول أو فعل حيال كل المواقف، وعلى وجه الخصوص في علاقته مع الآخرين. وهذه النقطة تتكامل مع النقطة السابقة، وربما لا نعدو الحقيقة إن قلنا إن أكثر المشاكل التي عانى، ولازال يعاني منها مجتمعنا يكمن في عدم قدرة أفراده ومواطنيه على وضع حد فاصل واضح بين ما هو لهم وما يخص الآخرين، أو بمعنى أوضح بين حقوقهم وحقوق الآخرين. والواقع أن تلك الفضائل ليست فطرية تولد مع الإنسان، كما قد يعتقد كثير منا، بوصفه كما جاء في بعض كتب الفكر السياسي - «كائناً اجتماعياً أو مدنياً بطبعه»، لكنه يتربى وينشأ عليها داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة ابتداءً من الأسرة مروراً بمؤسسات التنشئة التابعة للمجتمع المدني والسياسي المختلفة التي تتولى تلقين الفرد تلك القيم والفضائل جنباً إلى جنب مع تلقينه الخبرات والمعارف والعلوم التي يحتاج إليها. ولعل الفرق الكبير بين المجتمعات البشرية اليوم يعود إلى المدى الذي توليه لهذه القضية، وإلى فهم كل مؤسسة من مؤسساتها لطبيعة الدور الذي يجب عليها في سبيل تنمية وترسيخ قيم المواطنة في نفوس أبنائها، وخاصة في مراحل النمو العقلي المبكر عند الناشئة وصغار السن.. فهل ستقوم مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية بهذا الدور الوطني، وهل ستسهم في ترسيخ قيم الولاء والمواطنة وفضائلها لدى الإنسان اليمني ؟