يعتمد نجاح أي سياسة عامة تقوم الحكومة عبر مؤسساتها بوضعها في أي دولة من الدول على توافر واجتماع عديد من العوامل، أهمها: طبيعة وحجم الدور الذي قد يسهم به المواطن بصفة فردية أو جماعية في رسم تلك السياسات، خاصة في النظم الديمقراطية التي تعطي له الحق للإسهام في تحديد أولويات السياسة العامة وموضوعاتها الرئيسة، كما أنه يعتمد وبدرجة كبيرة على نمط الحياة اليومية الذي تعود المواطن على عيشه، فضلاً عن أولوياته وما يترتب عليها من قرارات، وأخيراً قد يعتمد على مدى فهم المواطن لطبيعة الدور الواجب عليه في سبيل إنجاح تلك السياسات. فالحكومة قد تضع في سياستها كثيراً من الاستراتيجيات والبرامج المتعلقة بالجوانب الصحية، وتسخر لتنفيذها كافة الإمكانيات والموارد المادية والبشرية، لكنها تعجز عن كفالة الرعاية الصحية المطلوبة لجميع المواطنين إذا كانوا هم في الأصل لا يحفلون بأحوالهم المعيشية والصحية، كما أنها قد تضع كافة إمكانياتها لأجل حماية البيئة المحلية من مصادر التلوث والعبث الإنساني، ولكنها لا تستطيع أن تحمي البيئة من التلوث إذا كان المواطنون لا يهتمون بنظافة بيئتهم...، وقد تضع العديد من التدابير التي تستهدف تحسين معيشة المجتمع والقضاء على الفقر والحد من البطالة، لكنها ستقف عاجزة بسبب استهتار البعض بقوانين الدولة المتعلقة بتحديد الأسعار، وأمام تغول البعض رغبة في الكسب السريع وغير المشروع واستشراء الفساد في بعض مفاصل أجهزة الدولة، ولن تجد علاجاً لرفض الشباب العاطل عن العمل في بعض القطاعات التي تحتاج إلى مجهود عضلي وبدني. وهكذا مع بقية المجالات المرتبطة بالسياسة العامة للدولة. وعليه فإن لم يتعاون المواطنون مع مؤسسات الدولة، وإن لم يظهروا قدراً كافياً من ضبط النفس في العديد من المسائل، فإن السلطات الحكومية ستقف مكتوفة اليدين، عاجزة عن تدبير الشأن العام، وستفشل في تحقيق كافة الأهداف والبرامج التي تضعها لتنفيذ السياسات العامة. بعبارة أوضح فالحكومة - في أي دولة - تحتاج إلى المواطنة الواعية بحقوقها عن فهم، والممارسة لأدوارها ومسئولياتها عن قناعة. فما المقصود بالمواطنة؟ وما الفضائل التي ينبغي علينا التحلي بها حتى نغدو مواطنين صالحين؟ يُعرَّف المواطن بوصفه «الشخص الذي له الحق في العيش الدائم في مجتمع ما، والتمتع بكافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تخولها له تلك الصفة»، والمواطنة هي «الحق القانوني في أن تكون مواطناً في مجتمعٍ من المجتمعات»، وهي تتمثل في العلاقة أو الرابط القانوني الذي يربط الإنسان بمجتمعٍ ما. وفي وقتنا الحاضر باتت العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية - متأثرة بالثقافة القانونية الغربية - تعد الجنسية Nationality الرابط الأقوى الذي يربط إنساناً ما بمجتمعٍ من المجتمعات، فنقول المواطن اليمني، ونعني به الإنسان الذي يحمل الجنسية اليمنية. مع أن رابط الجنسية قد لا يعكس - بطريقة حقيقية - عمق الانتماء، وقوة الرابطة التي تربط الإنسان بدولة من الدول، وفي أحيان كثيرة قد تتعدد لدى الفرد الروابط والولاءات، مثل الولاء للأسرة والعشيرة والقبيلة، والحزب، وغيرها.. ، وهنا تكمن مشكلة العديد من المجتمعات والدول، خاصة في الحالات التي لا يتم فيها التمييز بين تلك الولاءات الضيقة وبين الولاء الواسع للدولة، الذي ينبغي أن يحتل قمة تلك الولاءات. ولمفهوم المواطنة - وفقاً لبعض الدراسات التربوية الحديثة - حدان اثنان: الحد الأدنى: ويعني احترام القوانين أو طاعتها، لكنه لا يعني الممارسة الفعالة للحقوق السياسية، وغالباً ما يشير فقهاء القانون الدستوري إلى مفهوم المواطن في هذا الحد الأدنى بمعنى «الفرد Person» أي الفرد الذي يكتفي بالانصياع للقوانين وتنفيذها دون أن يتدخل في كيفية سنها أو وضعها؛ والحد الأقصى: الذي يعني الإصرار على تحقيق الديمقراطية أو العدالة السياسية، وذلك من خلال توسيع وتعميق المشاركة السياسية بقصد المساهمة في الحياة السياسية، وفي هذه الحالة ينطبق على المواطن صفة المواطنة الحق؛ إذ هو «الشخص الذي يساهم ويشارك في صياغة القوانين ويتدخل من أجل تعديلها». والواقع أن عديداً من الأدبيات والتيارات السياسية والقوى الحزبية تتغافل عن حقيقة أن المواطنة خليط متجانس من الحقوق والواجبات لأنهما متكاملان ومتلاصقان، فلا يمكن رفع الصوت للمطالبة بإقرار الحقوق ومنح الحريات وفي نفس الوقت رفض أداء الواجبات. ولذا يصبح من الضروري - كما يشير أحد الباحثين - توافر العديد من الفضائل والخصائص التي يتعين أن يتمتع بها المواطن في أي نظام سياسي سواء أكان ديمقراطياً أم لم يكن كذلك، وقد حددت بعض الأدبيات مجموعة من الفضائل التي يجب أن يتحلى بها المواطن، بوصفها واجبات المواطنة، وأهمها التالي: (1) الشعور بالتضامن والولاء، بمعنى أن يبدي أعلى درجات التآزر والتآخي مع الآخرين، بما ينطوي عليه من إحساس بالانتماء للوطن والمواطنين، فهو واحد منهم ومعهم ولهم. (2) الإقدام والجسارة والجرأة والشجاعة، أي أن يتحلى المواطن بالشجاعة والجرأة التي تمكنه من تقييم أداء من يتقلدون الوظائف العامة، وأن يشارك عن قناعة ورغبة في مناقشة القضايا العامة، وأن يكون له رأي ورؤية في كل ما يجري في مجتمعه الكبير والمحلي. وبعبارة أدق، أن يمارس المواطن حرية التفكير، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية الحركة والفعل والنقد. وتندرج هذه الخاصية ضمن إطار ما يعرف بالرقابة الشعبية على أعمال السلطات المختلفة، وهي السمة التي تميز المجتمعات الديمقراطية عن غيرها من المجتمعات، وهذه الأمور على أهميتها ينبغي أن تمارس دون محاباة أو مجاملة، وبوعي كامل وإدراك تام، وأن تكون ضمن الحيز القانوني، وأن لا تتحول إلى نوعٍ من تصفية الحسابات مع الآخرين، وكيل الاتهامات لهم دون حجة دامغة أو دليل بين، وإلا انحرفت عن الهدف المحدد لها، وتحولت إلى معول هدم وتخريب واستنزاف لكل مقدرات الوطن. (3) العدالة والإنصاف، وهي تلك المشاعر التي تمكنه من أن يدرك ويتبين حقوق الآخرين ويحترمها ويقدرها، ومن ثم لا يغالي ولا يبالغ في حقوقه ومصالحه. ويبدو واضحاً من المشاهدات اليومية أن هذه الخاصية بالذات هي واحدة من الخصائص التي يفتقر إليها العديد من مجتمعاتنا ومواطنينا؛ إذ من اليسير أن يدرك الإنسان حقوقه، ويطالب الآخرين باحترامها وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها، لكنه يجد صعوبة في احترام حقوق الآخرين، خاصة إن تقاطعت مع حقوقه الشخصية، ويجد صعوبة أكبر في التمييز بين حقوقه وواجباته. (4) التحضر والكياسة والتسامح، وتعني تلك التي تتبدى واضحة جلية فيما يصدر عنه من قول أو فعلٍ حيال كل المواقف، وعلى وجه الخصوص في علاقته مع الآخرين. وهذه النقطة تتكامل مع النقطة السابقة، وربما لا نعدو الحقيقة إن قلنا إن أكثر المشاكل التي عانت، ولازالت تعاني منها المجتمعات البشرية تكمن في عدم قدرة أفراده ومواطنيه على وضع حدٍ فاصل واضح بين ما هو لهم وما يخص الآخرين، أو بمعنى أوضح بين حقوقهم وحقوق الآخرين. والواقع أن تلك الفضائل ليست فطرية تولد مع الإنسان، كما قد يعتقد كثير منا، بوصفه - كما جاء في بعض كتب الفكر السياسي - «كائناً اجتماعياً أو مدنياً بطبعه»، لكنه يتربى وينشأ عليها داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة ابتداءً من الأسرة مروراً بمؤسسات التنشئة التابعة للمجتمع المدني والسياسي المختلفة التي تتولى تلقين الفرد تلك القيم والفضائل جنباً إلى جنب مع تلقينه الخبرات والمعارف والعلوم التي يحتاج إليها. ولعل الفرق الكبير بين المجتمعات البشرية اليوم يعود إلى المدى الذي توليه لهذه القضية، وإلى فهم كل مؤسسة من مؤسساتها لطبيعة الدور الذي يجب عليها في سبيل تنمية وترسيخ قيم المواطنة في نفوس أبنائها، وخاصة في مراحل النمو العقلي المبكر عند الناشئة وصغار السن. فهل تقوم مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية بهذا الدور الوطني، وهل تسهم في ترسيخ قيم الولاء والمواطنة وفضائلها لدى الإنسان اليمني؟