سبقت الإشارة إلى ضرورة تحلي المواطن اليمني بالعديد من الفضائل التي تدخل ضمن ما يعرف بفضائل المواطنة الحق، وهي للتذكير تتمثل في عدة خصائص تميز المواطن عن غيره من الأفراد الذين يعيشون على ثرى هذا الوطن الكبير، ومنها:- -1 مشاعر الإقدام والجسارة والجرأة والشجاعة أي أن يتحلى المواطن بالشجاعة والجرأة التي تمكنه من تقييم أداء من يتقلدون الوظائف العامة، وأن يشارك عن قناعة ورغبة في مناقشة القضايا العامة، وأن يكون له رأي ورؤية في كل ما يجري في مجتمعه، وبعبارة أدق، أن يمارس المواطن حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الحركة والفعل. وتندرج هذه الخاصية ضمن إطار مايعرف بالرقابة الشعبية على أعمال السلطات المختلفة، وهي السمة التي تميز المجتمعات الديمقراطية عن غيرها من المجتمعات، وهذه الأمور على أهميتها ينبغي أن تمارس دون محاباة أو مجاملة، وبوعي كامل وإدراك تام، وأن تكون ضمن الحيز القانوني، وألاّ تتحول إلى نوعٍ من تصفية الحسابات مع الآخرين، وكيل الاتهامات لهم دون حجة دامغة أو دليل بيّن، وإلا انحرفت عن الهدف المحدد لها، وتحولت إلى معول هدم وتخريب واستنزاف لكل مقدرات الوطن. -2 مشاعر العدالة والإنصاف، وهي تلك المشاعر التي تمكنه من أن يدرك ويتبين حقوق الآخرين ويحترمها ويقدرها، ومن ثم لايغالي ولا يبالغ في حقوقه ومصالحه، ويبدو واضحاً من المشاهدات اليومية أن هذه الخاصية بالذات هي واحدة من الخصائص التي يفتقر إليها العديد من مجتمعاتنا ومواطنينا، إذ من اليسير أن يدرك الإنسان حقوقه، ويطالب الآخرين باحترامها وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها، لكنه يجد صعوبة في احترام حقوق الآخرين، خاصة إن تقاطعت مع حقوقه الشخصية، ويجد صعوبة أكبر في التمييز بين حقوقه وواجباته. 3 - مشاعر التحضر والكياسة والتسامح، وتعني تلك التي تتبدى واضحة جلية فيما يصدر عنه من قول أو فعل حيال كل المواقف، وعلى وجه الخصوص في علاقته مع الآخرين، وهذه النقطة تتكامل مع النقطة السابقة، وربما لانعدو الحقيقة إن قلنا: إن أكثر المشاكل التي عانت، ولازالت تعاني منها المجتمعات البشرية تكمن في عدم قدرة أفرادها ومواطنيها على وضع حدٍ فاصل واضح بين ماهو لهم ومايخص الآخرين، أو بمعنى أوضح بين حقوقهم وحقوق الآخرين. 4 - مشاعر التضامن والولاء، بمعنى أن يبدي أعلى درجات التآزر والتآخي مع الآخرين، بما ينطوي عليه من إحساس بالانتماء للوطن والمواطنين، فهو واحد منهم ومعهم ولهم. كنت قد وعدت القارىء بالعودة للحديث عن كل واحدة من تلك الفضائل بصورة أكثر تفصيلاً، وبالنظر إلى الأوضاع التي عاشها مجتمعنا اليمني خلال الأيام الماضية، وحالة الهيجان التي عرفتها العديد من مدن يمننا الواحد، وبغض النظر عن وجهات النظر المتعددة التي قرأت تلك الأحداث من زوايا متعددة، وعن الرغبات المختلفة التي اختفت وراء العديد من تلك المواقف، وحتى تلك المواقف التي سعت إلى استغلال آلام ومشاكل بعض أبناء الوطن لتبرير وجهة نظر معينة سواء لهذا الطرف أو لذاك، في تجرد مبالغ فيه في أبسط فضائل المواطنة «أي مشاعر التضامن والولاء»، وتخلٍ عن أبسط مظاهر الكياسة والتسامح، والموضوعية، وهذا الأمر يثير أكثر من علامة استفهام عن المحرك، والمستفيد الحقيقي من الأحداث التي عرفتها بعض مدننا اليمنية. بداية دعونا نتفق على أن التحلي بكل تلك الفضائل جملة واحدة يعد أمراً محالاً، ولانتصور وجود مواطن كامل أو مدينة فاضلة كل ساكنيها من البشر الأخيار أو الملائكة الأبرار، وبالمثل لايمكن قبول تخلي المواطن عن كل قيم وفضائل المواطنة الحق، تحت أي مبرر أو ذريعة، ولأي سبب مهما بدا له وجيهاً أو مقبولاً، ولذا ينبغي في رأيي قراءة الأحداث التي شهدها مجتمعنا اليمني بموضوعية وتجرد كاملين، وانطلاقاً من الإقرار بالعديد من الحقائق والأمور، أولها، تلك التي تشير إلى أن الجميع في الوطن متساوون - قانونياً ودستورياً - في الحقوق والواجبات، وإن بدا أن البعض يقفون فوق القانون، وثانيها: أن الجميع في مجتمعنا اليمني يعاني بدرجة تكاد تكون متساوية جراء الارتفاع الصاروخي في أسعار المواد الأساسية والتموينية، وتناقص القدرة الشرائية للريال اليمني، وأن تكاليف المعيشة داخل الوطن باتت أشد وطأة من ذي قبل وإن بدرجات تتفاوت في الحدة نتيجة التفاوت في مستويات الدخل، وأن المواطن اليمني يعاني العديد من الأمراض الإدارية، مثل: أمراض الروتين الاداري والبطء في المعاملات في غياب معالجات فعّالة تتسم بالسرعة والوضوح والشفافية، وتفشي مظاهر الرشوة، والمحسوبية، والتفاوت الملحوظ في مستويات المعيشة الناجمة عن الإثراء غير المشروع للبعض، وتفشي مظاهر من الظلم الاجتماعي، واستغلال النفوذ، والفساد بكافة صوره وأنواعه، وكلها أمراض يرزح تحت وطأتها مجتمعنا ويعاني منها المواطن اليمني، مع أن هناك شبه إجماع حول ضرورة مكافحة هذه الأمراض التي يعاني منها مجتمعنا اليمني، دون تمييز بين المواطنين اليمنيين وتلك أمور لا أتصور أن يختلف حولها اثنان. لكن، دعونا وبنفس القدر من الصدق مع النفس نقول: إننا - كمواطنين يمنيين، وأتصور أن هذا شعور يخالج كل من يشعر بالانتماء إلى تراب هذا الوطن الموحد - نعاني أشد أنواع المعاناة، ونشعر بغصة وحرقة شديدة عندما نسمع بعض الأصوات التي تعيش نوعاً من «النوستالجيا» الانتقائية أو أوهام الحنين إلى الماضي التشطيري، التي لاتذكر من ذلك الماضي سوى بعض الذكريات التي تؤجج مشاعر العداء لكل ماهو وحدوي، وتتناسى حقيقة الأوضاع المعيشية المزرية التي كان المواطن اليمني يعيشها قبل تحقق الوحدة، على الأقل في بعض محافظات الوطن اليمني الكبير، وتحاول الاتجار بآلام الناس ومعاناتهم ودغدغة عواطفهم بوعود سحرية، وجرهم إلى مواجهات ساخنة مع النظام السياسي لدولة الوحدة اليمنية، وحصر الأزمة كلها في قضية المواطنة غير المتساوية، وتشويه الحقائق كلها دفعة واحدة، مستغلة حالة الضيق بالعيش سبيلاً لتحقيق مآرب خاصة، وتصفية خلافاتها مع النظام السياسي، لنقف بعد ذلك موقف المتفرج الشامت بما آلت إليه الأوضاع. مثل تلك الدعوات الهدّامة للوطن ووحدة شعبه، ماكان ينبغي أن ترتفع في سماء الوطن الواحد، لولا غياب الاهتمام بالتربية على قيم المواطنة وفضائلها العديدة، في برامج أحزابنا وتنظيماتنا السياسية، وتخلي العديد من مؤسسات المجتمع المدني عن لعب هذا الدور، والتركيز على الجوانب المتعلقة بالحقوق وإهمال الجوانب المتعلقة بالواجبات، وانعدام الإحساس بالانتماء إلى الوطن، ولن يجدي في هذه الحالة نفعاً سن القوانين أو التشريعات التي تعد الوحدة وباقي الثوابت الأخرى من الأمور المحظورة، إذ إنها ستدخل الأطراف السياسية والقوى الاجتماعية في نوع من الصراع اليومي المفتوح، لتتزايد معها الحاجة إلى استخدام وسائل الضبط القسري، بعيداً عن أساليب الحوار الديمقراطي الهادىء والمتزن، وهذه أمور تتسبب في هدر المزيد من الموارد والمقدرات الاقتصادية والبشرية، وتدخل المجتمع في دائرة مغلقة من العنف تتسبب في إعاقة عملية التنمية، التي يؤدي عدم تحققها - بدوره - إلى تجدد أسباب الصراع السياسي والاجتماعي، في متو الية زمنية رتيبة ورديئة. عليه أصبح من الضروري التنويه إلى أن تحقيق التنمية الشاملة، والقضاء على كافة المعوقات التي تزيد مظاهر المعاناة الشعبية، وتؤجج مشاعر العداء لكافة قيم المواطنة والانتماء الوطني، باتت تمثل اليوم مطلباً شعبياً ملحاً، إذ بدونها يصبح الحديث عن فضائل المواطنة والولاء الوطني ترفاً فكرياً، وحديثاً ينتمي لعالم المثاليات، وإهداراً لكل معاني المواطنة الواحدة الحقيقية لكل أبناء اليمن الواحد، وفي نفس الوقت فالتنمية ستكون عملية عصية إن لم تتضافر كافة الجهود، وتتوجه كل الموارد لتحقيقها