لا بأس أن يدعي كل واحد منا أنه سياسي، أو حتى أن يتعاطى السياسة بافراط.. ولكن كم هم الذين يحفظون جداول ضرب معادلات السياسة !؟ وكم هم الذين يعرفون قراءة أبجديات العمل السياسي في خطاباتهم عندما يكونون في أوساط الجماهير!؟ وكم هم الذين تلهمهم تجارب التاريخ حكمة المشروع السياسي لأوطانهم !؟. إن كان هناك من يرغب بممارسة العمل السياسي فلا بد أن يعرف أولاً أن السياسة ليست عالماً افتراضياً من وحي خيالات بشرية، بل هي صناعة خلاقة لواقع إنساني محفوف بجملة من القيم الأخلاقية التي يشق على كثيرين التحلي بها.. ولعل أولى هذه القيم هي «الولاء الوطني»، لأن السياسة التي تولد خارج رحم الوطن تتحول إلى ثرثرة، ونفاق، ومحض حماقات طائشة.. لا أحد يمانع أن نتحول جميعاً إلى سياسيين سوى إنسانيتنا التي توجب علينا حمل رسالة استحقاقنا التكويني، وترجمة ذاتنا بالقدر الذي يمنحنا فرص الحياة الكريمة.. وبالتالي فإن وظيفة السياسي ليست إلقاء الخطب، وكتابة البيانات، والادلاء بتصريحات، بقدر ما هي وظيفه تغييرية قائمة على حسابات وتوازنات وبعد نظر، ومعرفة مسبقة بالغايات المرجوة من كل فعل يؤتى به. عندما نقف أمام أرقام كبيرة لأعداد من نصفهم، أو يصفون أنفسهم ب «السياسيين» من مختلف الانتماءات والشرائح والفئات، دون أن نجد أثراً مناسباً لفعلهم على أرض الواقع، فإن من البدهي التساؤل عن جدوى كل هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات المدنية.. وعن جدوى الاحصائيات التي تفاخر بها لقواعدها المليونية، طالما وأن جماعات صغيرة لا تقارن كانت هي الأجدر في بسط ثقافتها السلبية، وما تحمله من نوايا ومشاريع عدوانية. لماذا ندعي أننا سياسيون إن كانت حشودنا المليونية التي نحركها في كل مناسبة وغير مناسبة عاجزة عن مقاومة معاول الهدم والتشطير.. وأضعف من أن تقنع شاباً لم يبلغ الحلم بثقافتها السلمية، وقيمها الأخلاقية، ومناهجها الوحدوية، وغير ذلك من الممارسات التي ترنحت فجأة أو تنحت جانباً، لتفسح الطريق لمرور ثقافة الكراهية، والعنف والتخريب والتمزيق..!؟ إن كنا مصرين على التشبث بمسمياتنا السياسية، فلماذا إذن اختزلنا حجمنا إلى مقرات حزبية، وبعض نخب قيادية يمثل الأمانات العامة، ثم إلى قصاصات ورقية نسطر عليها بياناتنا، وبلاغاتنا الصحفية التي تفصح عن مواقفنا تجاه مختلف القضايا الوطنية..!؟ وياترى ماذا عن القواعد، وكيف توارت حين بدأ أعداء الوطن غرس الكراهية والعصبية، وتفريق أحقاده على البيوت والحارات والشوارع..!؟ إن ما شهدته الساحة الداخلية في بعض المحافظات الجنوبية، أماط النقاب عن الانفصام في الشخصية التنظيمية لكثير من الأحزاب السياسية التي لم تتوافق دوائرها القيادية مع قواعدها الشعبية ولم يمثل أحدهما الآخر.. بل إن الأفظع من ذلك هو سرعة الفرز الهائلة التي انسلخت خلالها أجزاء كبيرة من تكويناتها التنظيمية القاعدة مغلبة العنصرية المناطقية على الانتماءات الحزبية. إن معظم الأحزاب تعاطت مع السياسة من واقع ثقافتها الافتراضية التي لا تستند على أي قاعدة فكرية وثقافية، وإنما قامت على أرقام عددية، ودعايات ترويجية، واستغلال لمعاناة شعبية.. لنجدها اليوم بلا هياكل، ولاشوارع، ولا هوية سياسية تميزها عن سواها من القوى الغوغائية.. وهو الواقع الذي ينبغي للأحزاب اليمنية إعادة حساباته باستيعاب كامل لمفردات التجارب السياسية.