بعد ماراثون سياسي طال كل الشوارع، واستمر ما يزيد عن العامين، وصولات منبرية استخدمت كل قواميس القدح الشامل، وجولات حوارية، ومناورات حزبية، تبين أن دعاة التغيير لا يدرون إلى حد الآن إن كانت الجماهير تحلم بدولة مؤسسية، أم قبلية، أم شمولية!. فتصريحات قوى المعارضة اليمنية أمست مرآة الواقع الذي تعيشه أحزابها، وقواها الوطنية المنضوية فيها.. ففي الوقت الذي تنهال بعض القوى المسلحة اليمنية ببيانات داعية إلى الانفصال والعودة إلى زمن التشطير، تصطف قوى إسلامية لتغذية هذا التوجه بالمبررات والمسوغات، وكثير من الغمز واللمز السياسي رغم أن النهج الإسلامي توحيدي وليس انفصالياً.. ومن الغرابة بمكان أن هذه القوى حين تدعو إلى «حراك جنوبي»، و«حراك شمالي»، و «حراك أوسطي»، مازالت تحاججنا بأن ما تدعو إليه لا يرسخ العنصرية المناطقية، ولا ينتمي إلى المشاريع التشطيرية.. رغم أنها كانت قبل بضع سنوات تهاجم التيارات القومية وتقول إنها جاءت لتفتيت الأمة الإسلامية إلى مسميات وقوميات، فيما هي اليوم لا ترى في دعواتها تفتيتاً للوطن الواحد. وضمن نفس دعاة التغيير السياسي تنادي بعض المبادرات بإصلاحات سياسية، غير أنها لا تمانع بتبني أفكار «الثورة القبلية» وإيلاء مهمة التغيير السياسي إلى القبيلة، رغم كل التقاطع والتناقض بين الدعوتين الذي ظل عنوان صراع قديم وزمن طويل من الصدام بين القوة التقليدية والقوة التحديثية. إن هذا اللون من الصراع الحزبي الذي يبادر كل قطب فيه إلى المزايدة على مبادرة القطب الآخر، ثم التظاهر بالوفاق والوئام يلفت الأنظار إلى ظاهرة يمنية غريبة، وهي غياب دور النخب الفكرية والثقافية في مواجهة الزحف الحزبي إلى مواقع التنظير، وصياغة الفلسفات والاتجاهات لمسار الوعي الوطني.. فإننا لو تأملنا كل الدعوات ذات العلاقة بالشأن السياسي لوجدنا أن أربابها ليسوا ممن يعدون ضمن نخب المفكرين، وليسوا ممن يحملون تجارب سياسية ذات شأن أو ممن يستقلون برؤى فكرية مستمدة من واقع دراية وإلمام بما هو سائد في بقاع أخرى من العالم.. بل أؤكد أن ثقافة أغلبهم لا تتعدى ما يقال بموجز نشرة إخبارية تليفزيونية. إن المنطق الذي يفرض نفسه على كل ما يجري هو كيف يمكن لقوى سياسية حداثية في الألفية الثالثة أن تعتبر «الثورة القبلية» مشروعاً مؤسسياً للتغيير؟ وهل معنى هذا أن القبيلة استبقت تطور فكر المجتمع وفلسفته؟ وهل تحول في رأيها النظام الديمقراطي والتعددية الحزبية إلى عبء على «تقدم ووعي» القبيلة، وآن الأوان لعودة سلطة المشائخ؟ أم آن الأوان للعودة إلى ثقافة القرون الوسطى التي هوت بها الكنائس إلى حضيض الحياة الإنسانية.. ثم إلى أي مدى يعتقد الاشتراكيون والقوميون بأن نفوذ القبيلة لا يتعارض مع سياسات الاقتصاد الحر، والملكية العامة، ونظريات «آدم سميث» وغيرها من المبادئ التي تشكل قوام أدبيات أحزابهم!؟. لاشك أننا لسنا ضد القبيلة، ولا نستهين بقدراتها النضالية التي ترجمتها إلى حقائق في مختلف مراحل الحركة الثورية في اليمن.. لكننا نتساءل عن مؤهلات القبلية في اليمن في ضوء واقعها اليوم، وفي ضوء متغيرات قواعد اللعبة السياسية، وارتباطها الإقليمية والدولية.. كما نتساءل عن مدى قدرة النظام القبلي في التعايش مع حالة التعددية في إطار السلطة السياسية، ومدى قبول القوى الليبرالية بتقاسم المسئوليات الوطنية مع «مجالس القبائل» أو ما شابه ذلك. إن الوصول إلى أجوبة لذلك يكشف عن خبايا الغايات التي ترمي إليها قوى المعارضة في اليمن وهي بالتأكيد مصالح تجارية محدودة أسوة بما كان يحدده بعض الملوك عندما يتوجهون لغزو مدينة ما فيبيحونها للرعاع لينهبوها مقابل أن يعود قسط من المستحصل عليه إلى خزائن السلطان. لكننا في اليمن لا نستطيع الأخذ بذلك الرأي على نحو مطلق، لأن مؤسسات الدولة تضم الكثير من رجال القبائل ممن يوضع فيهم الرهان الوطني، فعلى سبيل المثال كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، أحد أعمدة السياسة والحكم في اليمن، وأحد الثوريين الذين صنعوا التغيير الوطني، وهناك آخرون يتصدرون واجهة النخبة السياسية في اليمن.. وبالتالي فإننا أمام رهانين قبليين، الأول سياسي متفاعل مع الحياة اليمنية، والثاني متخفٍ في انعزالية بدأ البعض يدعوه لقيادة التغيير السياسي على طريقته التقليدية «التجارية». إن هذا الواقع هو الذي تتشكل به الأزمة السياسية القادمة، ويضع كل تلك النقائض في سلة واحدة «معارضة» لا يهمها كيف أنت تفكر، وبماذا تؤمن، وما أسلوبك في العمل، وما إحساسك نحوها، وهل أنت شريف أم دنيء، وهل تنوي إحراق البلد أم لا..؟ بل إن كل ما يهمها أن تكون قادراً على فتح جبهات المواجهة وإضرام الفتنة.. أما الباقي فستفكر به في حينه.